نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate واق

السبت، 4 فبراير 2023

أصناف المغرورين-أبو حامد الغزالي

 

أصناف المغرورين-أبو حامد الغزالي

أصناف المغرورين حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد الغزالى الطوسى

المحتوي

مقدمة المؤلف • أصناف المغرورين o غرور الكافر o فصل فيمن يشاركون الكفار غرورهم من المؤمنين o فصل فى غرور عصاة المؤمنين o فصل فى غرور من يظن أن طاعته أكثر من معاصيه • فصل فى بيان المغرورين وأقسام كل صنف الصنف الأول من المغرورين العلماء الصنف الثانى من المغرورين أرباب العبادات والأعمال الصنف الثالث من المغرورين أرباب الأموال الصنف الرابع من المغرورين المتصوفة

مقدمة المؤلف

قال الشيخ الإمام العالم العامل حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد الغزالى الطوسى رحم الله وعفا عنه: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على خير خلقة سيدنا محمد وآله وصحبه هذا كتاب الكشف والتبيين فى غرور الخلق أجمعين. اعلم أن الخلق قسمان: حيوان وغير حيوان. والحيوان قسمان: مكلف ومهمل. فالمكلف من خاطبه الله بالعبادة وأمره بها. ووعده الثواب عليها ونهاه عن المعاصى وحذره العقوبة. ثم المكلف قسمان: مؤمن وكافر. والمؤمن قسمان طائع وعاص. وكل من الطائعين والعاصين ينقسم قسمين: عالم وجاهل. ثم رأيت الغرور لازما لجميع المؤمنين المكلفين والكافرين. إلا من عصمه الله رب العالمين. وأنا بحمد الله أكشف عن غرورهم وأبين الحجة فيه. وأوضحه غاية الإيضاح. وأبينه غاية البيان بأوجز ما تكون العبارة. وأبدع ما يكون من الإشارة. والمغرورون من الخلق ما عدا الكافرين أربعة أصناف:

صنف من العلماء, وصنف من العباد، وصنف من أرباب الأموال، وصنف من المتصوفة. غرور الكافر

فأول ما نبدأ به غرور الكافر وهو قسمان: منهم من غرته الحياة الدنيا. ومنهم من غره بالله الغرور. أما الذين غرتهم الحياة الدنيا وهم الذين قالوا: النقد خير من النسيئة. ولذات الدنيا يقين. ولذات الآخرة شك!!. ولا يترك اليقين بالشك. وهذا قياس فاسد. وهو قياس إبليس لعنه الله تعالى فى قوله: أنا خير منه. فظن أن الخيرية فى النسب. وعلاج هذا الغرور شيئان إما بتصديق وهو الإيمان. وإما ببرهان. أما التصديق فهو أن يصدق الله تعالى فى قوله )وما عند الله خير وأبقى( )وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور(. وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به. وأما البرهان: وهو أن يعرف وجه فساد قياسه. أن قوله: الدنيا نقد والآخرة نسيئة مقدمة صحيحة وأما قوله: النقد خير من النسيئة. فهو محل التلبيس. وليس الأمر كذلك. بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار. والمقصود فهو خير. وإن كان أقل منها. فالنسيئة خير منه. ومعلوم أن الآخرة أبدية. والدنيا غير أبدية. وأما قوله: ولذات الدنيا يقين ولذات الآخرة شك فهو أيضا باطل. بل ذلك يقين عند المؤمنين. وليقينه مدر كان: أحدهما الإيمان والتصديق على وجه التقليد للأنبياء والعلماء كما يقلد الطبيب الحاذق في الدواء. والمدرك الثاني: الوحى للأنبياء والإلهام للأولياء. ولا تظن أن معرفة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمور الآخرة. ولأمور الدنيا تقليد لجبريل عليه السلام. فإن التقليد ليس بمعرفة صحيحة. والنبي صلّى الله عليه وسلّم حاشاه الله من ذلك. بل انكشفت له الأشياء. وشاهدها بنور البصيرة. كما شاهدت أنت المحسوسات بالعين الظاهرة. فصل فيمن يشاركون الكفار غرورهم من المؤمنين بربهم والمؤمنون بألسنتهم وعقائدهم إذا ضيعوا أمر الله تعالى وهى الأعمال الصالحة.

وتدنسوا بالشهوات. وهم مشاركون الكفار فى هذا الغرور. فالحياة الدنيا للكافرين والمؤمنين جميعا غرور: فأما غرور الكافرين بالله تعالى فمثاله: قول بعضهم فى أنفسهم بألسنتهم: إنه إن كان الله معيدنا فنحن أحق بها من غيرنا كما أخبر الله تعالى عنهم فى صورة الكهف حين قال: (ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً) ما سبب هذا الغرور وسبب هذا الغرور قياس من أقيسة إبليس لعنه الله تعالى. وذلك انهم ينظرون مرة إلى نعم الله تعالى عليهم في الدنيا. فيقيسون عليها نعم الآخرة ومرة ينظرون إلى تأخير عذاب الله عنهم في الدنيا فيقيسون عذاب الآخرة كما أخبر الله تعالى عنهم (ويقولون فى أنفسهم لو لا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير) ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم فقراء. فيزدرونهم ويقولون: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا(. ويقولون: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه(. وترتيب القياس الذى نظم فى قلوبهم أنهم يقولون: قد أحسن الله إلينا بنعم الدنيا. وكل محسن فهو محب وكل محب فهو محسن وليس كذلك. بل يكون محسناً ولا يكون محباً. بل ربما يكون الإحسان سبب هلاكه على الاستدراج. وذلك محض الغرور بالله عز وجل. ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (إن الله تعالى يحمى عبده من الدنيا كما يحمى أحدكم مريضه عن الطعام والشراب وهو يحبه(. ولذلك كان أرباب البصائر إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا وإذا أقبل عليهم الفقر فرحوا. وقالوا: مرحبا بشعار الصالحين فقد قال الله تعالى: (فأما الإِنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه(. وقال تعالى: (أيحسبون أَنَّمَا نُمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون). الآية. وقال تعالى:(سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدى متين(. وقال تعالى:(فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون(. فمن آمن بالله تعالى يأمن من هذا الغرور. ومم ينشأ هذا الغرور ومنشأ هذا الغرور الجهل بالله تعالى وبصفاته. فإن من عرف الله تعالى فلا يأمن من مكر الله. وينظرون إلى فرعون وهامان وثمود وماذا حل بهم. مع أن الله تعالى أعطاهم من المال. وقد حذر الله تعالى مكره فقال تعالى:(فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون(. وقال تعالى:(ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين(. وقال تعالى:(فمَهل الكافرين أمهلهم رويداً(. فمن أولى نعمة يحذر أن تكون نقمة. فصل فى غرور عصاة المؤمنين

وهم من يتكلون على عفو الله ويهملون العمل وأما غرور العصاة بالله من المؤمنين فقولهم: غفور رحيم وإنما يرجى عفوه فاتكلوا على ذلك وأهملوا الأعمال وذلك من قبل الرجا فإنه مقام محمود في الدنيا. وأن رحمة الله واسعة ونعمته وشاملة وكرمه عميم وأنا موحدون نرجوه بوسيلة الإِيمان والكرم والإِحسان. منشأ ذاك الغرور وربما كان منشأ حالهم التمسك بصلاح الآباء والأمهات. وذلك نهاية الغرور فإن آباءهم مع صلاحهم وورعهم كانوا خائفين. ونظم قياسهم الذى سول لهم الشيطان: من أحب إنساناً أحب أولاده. فإن الله قد أحب أباكم فهو يحبكم فلا تحتاجون إلى الطاعات فاتكلوا على ذلك واغتروا بالله ولم يعلموا أن نوحا عليه السلام أراد أن يحمل ولده فى السفينة فمنع وأغرقه إليه سبحانه وتعالى بأشد ما أغرق به قوم نوح. وإن نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم استأذن فى زيارة قبر أمه، وفى الاستغفار: فأذن له فى الزيارة ولم يؤذن فى الاستغفار لها. ونسوا قوله سبحانه وتعلى:(أَلاَّ تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للإِنسان إلا ما سعى(. ومن ظن أنه ينجو بتقوى أصله كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه أو يروى بشراب أبيه. والتقوى فرض عين لا يجزى فيها والد عن ولده(يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه(. إلا على سبيل الشفاعة. ونسوا قوله عليه الصلاة والسلام:(الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه وهواها وتمنى على الله الأماني(. وقوله تعالى:(إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا فى سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم(. وقال تعالى:(جزاء بما كانوا يعملون(. وهل يصح الرجا إلا إذا تقدمه عمل وإلا فهو غرور لا محالة. ويقرب منهم غرور طوائف لهم طاعات ومعاص إلا أن معاصيهم أكثر وهم يتوقعون المغفرة ويظنون أن لغة حسناتهم ترجح أكثر من كفة السيئات. وهذا غاية الجهل فيرى الواحد يتصرف بدراهم معدودة من الحلال والحرام ويكون ما تناوله من أموال الناس والشبهات أضعافا وهو كمن وضع فى كفة الميزان عشرة دراهم ووضع فى الكفة الأخرى ألفاً وأراد أن تميل الكفة التى فيها العشرة وذلك غاية الجهل. فصل فى غرور من يظن أن طاعته أكثر من معاصيه وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها

كالذى يستغفر بلسانه أو يسبح فى الليل والنهار مثلا مائة مرة أو ألف مرة ثم يغتاب المسلمين وتكلم بما لا يرضاه الله طول النهار ويلتفت إلى ما ورد فى فضل التسبيح. ويغفل عما ورد فى عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين والمنافقين. وذلك محض الغرور فحفظ لسانه عن المعاصى آكد من تسبيحاته. فصل فى بيان المغرورين وأقسام كل صنف الصنف الأول من المغرورين العلماء

والمغرورون منهم فِرق: الفرقة الأولى فرقة منهم لما أحكمت العلوم الشرعية والعقلية تعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصى وإلزامها الطاعات فاغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله بمكان. وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغا لا يعذب الله تعالى مثلهم بل يقبل عليهم ويقبل فى الخلق شفاعتهم ولا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم وهو مغرورون فإنهم لو نظروا بعين البصيرة علموا أن العلم علمان: علم معاملة، وعلم مكاشفة. وعلم المكاشفة وهو العلم بالله تعالى وبصفاته. ولا بد من علم المعاملة لتتم الحكمة المقصودة وهى العلم بمعرفة الحلال الحرام ومعرفة أخلاق الناس المذمومة والمحمودة. ومثالهم مثال طبيب طب غيره وهو عليل قادر على طب نفسه ولم يفعل. وهل ينفع الدواء بالوصف!. هيهات لا ينفع الدواء إلا من شربه بعد الحمية. وغفلوا عن قوله سبحانه وتعالى:(قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسها) ولم يقل من يعلم تزكيتها وأهمل علمها وعلمها الناس. وغفلوا عن قوله صلّى الله عليه وسلّم:(إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه(. وغير ذلك كثير. وهؤلاء المغرورن - نعوذ بالله منهم - وإنما غلب عليهم حب الدنيا وحب الآخرة وحب الراحة. وظنوا أن علمهم ينحيهم فى الآخرة من غير عمل. الفرقة الثانية وفرقة أخرى أحكموا العلم والعمل الظاهر وتركوا المعاصى الظاهرة وغفلوا عن قلوبهم فلم يمحو منها الصفات المذمومة عند الله كالكبر والرياء والحسد وطلب الرياسة والعلا وإرادة الثناء على الأقران والشركاء وطلب الشهرة فى البلاد والعباد وذلك غرور سببه غفلتهم عن قوله عليه الصلاة والسلام:(الرياء الشرك الأصغر(. وقوله:(حب المال والشرف ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل(. إلى غير ذلك من الأخبار. وغفلوا عن قوله تعالى:(إلا من أتى الله بقلب سليم(. فغفلوا عن قلوبهم واشتغلوا بظواهرهم. ومن لا يصفى قلبه لا تصح طاعته. ويكون كمريض ظهر به الجرب فأمره الطبيب بالطلاء وشرب الدواء. فاشتغل بالطلاء وترك شرب الدواء. فأزال ما بظاهره. ولم يزل ما بباطنه. وأصل ما على ظاهره مما فى باطنه. فلا يزال جربه يزداد أبدا مما فى باطنه. فكذلك الخبائث إذا كانت كامنة فى القلب يظهر أثرها على الجوارح فلو زال ما فى باطنه استراح الظاهر. الفرقة الثالثة وفرقة أخرى علموا هذه الأخلاق. وعلموا أنها مذمومة من وجه الشرع إلا أنهم لعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون. وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك. وإنما يبتلى به العوام دون من بلغ مبلغهم فى العلم. فأما هم فإنهم أعظم عند الله من أن يبتليهم. فظهرت عليهم مخايل الكبر والرياسة. وطلبوا العلو والشرف. وغرورهم أنهم ظنوا ذلك ليس تكبرا. وإنما هو عز الدين وإظهار لشرف العلم. ونصرة الدين. وغفلوا عن فرح إبليس به. ونصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم لماذا كانت. وبماذا أرغم الكافرين وغفلوا عن تواضع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وتذللهم وفقرهم ومسكنتهم حتى عوتب عمر رضى الله عنه فى بذاذته عند قدومه إلى الشام فقال: إنا قوم عزنا الله بالإسلام. ولا نطلب العزة فى غيره. ثم هذا المغرور يطلب العز للدين بالثياب الرفيعة. ويزعم أنه يطلب عز الدين وشرفه. ومهما أطلق اللسان فى الحسد فى أقرانه أو فيمن رد عليه شيئا من كلامه لم يظن بنفسه أن ذلك حسد. ويقول: إنما هو غضب للحق ورد على المبطل فى عدوانه وظلمه. وهذ مغرور. فإنه لو طعن في غيره من العلماء من أقرانه ربما لم يغضب بل ربما يفرح - وإن أظهر الغضب عند الناس بأنه يحبه. وربما يظهر العلم ويقول: غرضى به أن أفيد الخلق. وهو هراء لأنه لو كان غرضه صلاح الخلق لأحب صلاحهم على يد غيره ممن هو مثله أو فوقه. وربما يدخل على السلطان ويتودد إليه ويثنى عليه. فإذا سئل عن ذلك قال: إنما غرضى أن أنفع المسلمين. وأن أرفع عنهم الضرر. وهو مغرور. ولو كان غرضه ذلك فرح به إذا جرى على يد غيره ولو رأى من هو مثله عند السلطان يشفع فى أحد يغضب. وربما أخذ من أموالهم فإن خطر بباله أنه حرام قال له الشيطان هذا مال لا مالك له وهو لمصالح المسلمين وأنت أحدها: أنه مال لا مالك له. والثانى: أنه لمصالح المسلمين. والثالث: أنه إمام. وهل يكون إماما إلا من أعرض عن الدنيا كالأنبياء والصحابة. ومثله: قول عيسى عليه السلام: العالم السوء كصخرة وقعت فى الوادى فلا هى تشرب الماء ولا هى تترك الماء يخلص إلى الزرع. وأصناف غرور أهل العلم كثيرة. وما يفسد هؤلاء أكثر مما يصلحونه. الفرقة الرابعة وفرقة أخرى حكموا العلم. وطهروا الجوارح وزينوها بالطاعات. واجتنبوا ظاهر المعاصى. وتفقدوا أخلاق النفس وصفات القلب من الرياء. والحسد والكبر والحقد. وطلب العلو. وجاهدوا أنفسكم فى التبرى منها وقلعوا من القلب منابتها الجلية القوية. ولكنهم مغرورون إذ بقى فى زوايا القلب بقايا من خفايا مكايد الشيطان. خبايا خدع النفس ما دق وغمض. فلم يفطنوا لها. وأهملوها. ومثالهم كمثل من يريد تنقية الزرع من الحشيش فدار عليه. وفتش عن كل حشيش فقلعه. إلا أنه لم يفتش عما لم يخرج رأسه بعد من تحت الأرض وظن أن الكل قد ظهر وبرز فلما غفل عنها ظهرت وأفسدت عليه الزرع. وهؤلاء إن غيروا تغيروا. وربما تركوا مخالطة الخلق استكبارا. وربما نظروا إليهم بعين الحقارة. وربما يجتهد بعضهم فى تحسين نظمه لئلا ينظر إليه بعين الركاكة. الفرقة الخامسة وفرقة أخرى تركوا المهم من العلوم. واقتصروا على علوم الفتاوى فى الحكومات والخصومات. وتفصيل المعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لمصالح المعايش. وخصصوا اسم الفقيه. وسموه: الفقيه وعلم المذهب. وربما ضيعوا مع ذلك علم الأعمال الظاهرة والباطنة ولم يتفقدوا الجوارح. ولم يحرسوا اللسان من الغيبة والبطن عن الحرام. والرجل عن السعى إلى السلاطين. وكذلك سائر الجوارح. ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والرياء والحسد. وسائر المهلكات. وهؤلاء مغرورون من وجهين: احدهما: من حيث العمل وقد ذكرت وجه علاجه فى الإحياء وأن مثالهم كمثل المريض الذى تعلم الدواء من الحكماء ولم يعلمه أو يعمله وهؤلاء مشرفون على الهلاك حيث أنهم تركوا تزكية أنفسهم وتخليتها. فاشتغلوا بكتاب الحيض والديات والدعاوى والظهار واللعان. وضيعوا أعمارهم فيها. وإنما غرهم تعظيم الخلق لهم وإكرامهم ورجوع أحدهم قاضيا ومفتيا. ويطعن كل واحد فى صاحبه. وإذا اجتمعوا زال الطعن. والثانى: من حيث العلم وذلك لظنهم أنه لا علم إلا بذلك وأنه المنجى الموصل. وإنما المنجى الموصل حب الله. ولا يتصور حب الله تعالى إلا بمعرفته. بمن تتحقق معرفة الله ومعرفته ثلاث: معرفة الذات ومعرفة الصفات. ومعرفة الأفعال. ومثال هؤلاء مثال من اقتصر على بيع الزاد فى طريق الحاج. ولم يعلم أن الفقه هو الفقه عن الله تعالى ومعرفة صفاته المخوفة. والزاجرة ليستشعر القلب الخوف. ويلازم التقوى كما قال تعالى:(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين(. ومن هؤلاء من اقتصر من علم الفقه على الخلافيات ولا يهمه إلا العلم بطريق المجادلة والإلزام. وإقحام الخصم ودفع الحق لأجل المباهاة. وهو طول الليل والنهار فى التفتيش فى مناقضات أرباب المذاهب والتفقد لعيوب الأقران. وهؤلاء لم يقصدوا العلم. وإنما قصروا مباهاة الأقران ولو اشتغلوا بتصفية قلوبهم كان خيرا لهم من علم لا ينفع إلا فى الدنيا. ونفعه فى الدنيا التكبر. وذلك ينقلب فى الآخرة نارا تلظى. وأما أدلة المذاهب فيشتمل عليها كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما أقبح غرور هؤلاء. الفرقة السادسة وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم الكلام والمجادلة والرد على المخالفين وتتبع مناقضاتهم. واستكثروا من علم المقولات المختلفة. واشتغلوا بتعلم الطريق فى مناظرة أولئك وإفحامهم. ولكنهم على فرقتين: إحداهما: ضالة مضلة والأخرى محقة. أما غرور الفرقة الضالة فلغفلتها عن ضلالتها وظنها بنفسها النجاة. وهو فرق كثيرة يكفر بعضهم بعضا. وإنما ضلوا من حيث أنهم لم يحكموا شروط الأدلة ومناهجها. فرأوا الشبه دليلاً. والدليل شبهة. وأما غرور المحقة فمن حيث أنهم ظنوا بالجدال أنه أهم الأمور وأفضل القربات فى دين الله تعالى. وزعمت أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يتفحص ويبحث. وإن من صدق الله تعالى من غير بحث وتحرير دليل فليس ذلك بمؤمن وليس بكامل ولا بمقرب عند الله ولم يلتفتوا إلى القرن الأول. وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم شهد لهم بأنهم خير الخلق ولم يطلب منهم الدليل وروى أبو أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. أنه قال:(ما ضل قوم قط بعد هدى كانوا عليه. إلا أوتوا الجدل(. الفرقة السابعة اشتغلوا بالوعظ. وأعلاهم نية من يتكلم فى أخلاق النفس وصفات القلب. من الخوف والرجاء، والصبر والشكر والتوكل، والزهد واليقين والإخلاص والصدق وهم مغرورون لأنهم يظنون بأنفسهم إذا تكلموا بهذه الصفات. ودعوا الخلق إليها فقد اتصفوا بها. وهم منفكون عنها إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين. وغرورهم أساس الغرور لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب. ويظنون أنهم ما تبحروا فى علم المحبة إلا وهم من الناجين عند الله تعالى وأنهم مغفور لهم بحفظهم لكلام الزهاد مع خلودهم من العمل وهؤلاء أشد غرورا ممن كان قبلهم لأنهم يظنون أنهم يحببون فى الله ورسوله. وما قدروا على تحقيق دقائق الإخلاص إلا وهم مخلصون ولا وقفوا على خطايا عيوب النفس إلا وهم عنها منزهون. وكذلك جميع الصفات. وهم أحب فى الدنيا من كل أحد. ويظهرون الزهد فى الدنيا لشدة حرصهم على الدنيا. وقوة رغبتهم فيها. ويحثون على الإخلاص وهم غير مخلصين. ويظهرون الدعاء إلى الله وهم منه فارون ويخوفون بالله وهم منه آمنون ويذكرون بالله وهم له ناسون. ويقربون إلى الله تعالى وهم منه متباعدون. ويذمون الصفات المذمومة وهم بها متصفون ويصرفون الناس عن الخلق وهم على الخلق أشدهم حرصا. لو منعوا عن مجالسهم التى يدعون فيها الناس إلى الله لضاقت عليهم الأرض بما رحبت ويزعمون أن غرضهم إصلاح الخلق. ولو ظهر من أقرانه أحدهم ممن أقبل الخلق عليه ومن صلحوا على يديه لمات غما وحسدا. ولو أثنى واحد من المترددين إليه على بعض أقرانه لكان أبغض خلق الله تعالى إليه فهؤلاء أعظم الناس غرورا وأبعدهم عن التنبيه والرجوع إلى السداد. الفرقة الثامنة وفرقة أخرى منهم عدلوا عن المنهج الواجب فى الوعظ وهم وعاظ أهل هذا الزمان كافة إلا من عصمه الله تبارك وتعالى. فاشتغلوا بالطامات. والشطح وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعدل طلبا للإغراب. وطائفة اشتغلوا بطيارات النكت ونسجيع الألفاظ وتلفيقها. وأكثر همهم فى الأسجاع والاستشهاد بأشعار الوصال والفراق. وغرضهم أن يكثر فى مجلسهم التواجد والزعقات ولو على أغراض فاسدة. وهؤلاء شياطين الإنس ضلوا وأضلوا. فإن الأولين إن لم يصلحوا أنفسهم فقد أصلحوا غيرهم وصححوا كلامهم ووعظهم. وأما هؤلاء فإنهم يصدون عن السبيل. ويجرون الخلق إلى الغرور بالله بلفظ الرجاء فيزيدهم كلامهم جرأة على المعاصى. ورغبة فى الدنيا لا سيما إذا كان الواعظ متزينا بالثياب والخيل والمراكب ويقنطهم من رحمة الله تعالى. الفرقة التاسعة وفرقة أخرى منهم فتنوا بكلام الزهاد وأحاديثهم فى ذم الدنيا فيعيدونها على نحو ما يحفظونه من كلام حفظوه من غير إحاطة بمعانيها. فيعظهم بفعل ذلك على المنابر. وبعضهم فى المحاريب. وبعضهم فى الأسواق مع الجلساء. ويظن أنه ناج عند الله. وأنه مغفور له الفرقة العاشرة وفرقة أخرى شغلوا أوقاتهم فى علم الحديث. أعنى سماعه. وجمع الروايات الكثيرة منه. وطلب الأسانيد الغريبة العالية. فهمة أحدهم أن يدور فى البلاد. ويروى عن الشيوخ ليقول: أنا أروى عن فلان. ورأيت فلانا. ولقيت فلانا. ومعى من الأسانيد مع ما ليس مع غيرى. وغرورهم من وجوه: منها أنهم كحملة الأسفار فإنهم لا يصرفون العناية إلى فهم السنة وتدبر معانيها. وإنما قاصرون على النقل. ويظنون أن ذلك يكفيهم. وهيهات. بل المقصود من الحديث فهم وتدبر معانيه. فالأول فى الحديث السماع. ثم التفهم ثم الحفظ. ثم العمل. ثم النشر. وهؤلاء اقتصروا على السماع لا عمل. ثم لم يحكموه. وإن كان لا فائدة فى الاقتصار عليه والحديث فى هذا الزمان يقرئونه الصبيان وهم غرة غافلون. والشيخ الذى يقرأ عليه ربما كان غافلا بحيث لو صحف وغير الحديث لا يعلم. وربما ينام ويروى عنه الحديث وهو لا يعلم. وكل ذلك غرور. وإنما الأصل فى استماع الحديث أن يسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أو من الصحابة. أو من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين. ويصير سماعه من الصحابة كسماعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهو يصغى ويحفظ. ويرويه كما حفظه حتى لا يشك فى حرف واحد منه. وإن شك فيه لم يجز له أن يرويه. وحفظ الحديث يكون بطريقتين: إحداهما: بالقلب مع الاستدامة بالتكرار والذكر. والثانية: يكتب كما يسمع. ويصحح المكتوب. ويحفظ كيلا تصل إليه يد من يغيره. ويكون حفظه الكتاب أن يكون فى خزانته محروسا حتى لا تمتد عليه يد غيره أصلا. ولا يجوز أن يكتب سماع الصبى والغافل والنائم ولو جاز ذلك أن يكتب سماع الصبى فى المهد. وللسماع شروط كثيرة. والمقصود من الحديث العمل به ومعرفته. وله مفهومات كثيرة. كما للقرآن. وروى عن بعض المشايخ أنه حضر فى مجلس السماع وكان أول حديث سمعه قوله صلّى الله عليه وسلّم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه(. فقام وقال: يكفينى هذا حتى أفرغ منه ثم أسمع غيره. وهكذا يكون سماع الأكياس. وهو أبو السعيد بن أبى الخير المنهى حضر فى مجلس ابن أحمد السرخسى. وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم النحو والشعر واللغة وغيرها. واغتروا به وزعموا أنه غفر لهم. وأنهم من علماء الأمة إذ قوام الدين والسنة بعلم اللغة والنحو. فأفنوا أعمارهم فى دقائق النحو واللغة. وذلك غرور. فلو عقلوا لعلموا أن لغة العرب كلغة الترك. والمضيع عمره فى لغة العرب كالمضيع عمره فى لغة الترك والهند. وإنما فارقهم لورود الشرع فيكفى فى اللغة علم الغريبين فى الأحاديث والكتاب. ومن النحو ما يتعلق بالحديث والكتاب. وأما التعمق إلى درجات لا تتناهى فهو فضول مستغنى عنه. وصاحبه مغرور. الصنف الثانى من المغرورين أرباب العبادات والأعمال والمغرورون فرق كثيرة.

فمنهم من غروره فى الجهاد ومنهم من غروره فى الزهد. الفرقة الأولى فمنهم فرقة أهملوا الفرائض. واشتغلوا بالنوافل. وربما تعمقوا حتى خرجوا إلى السرف والعدوان كالذى تغلب عليه الوسوسة فى الوضوء فيبالغ فيه. ولا يرضى الماء المحكوم بطهارته فى فتوى الشرع. ويقدر الاحتمالات البعيدة قريبة من النجاسة. وإذا آل الأمر إلى أكل الحلال قدر الاحتمالات القريبة بعيدة وربما أكل الحرام المحض. ولو انقلب بهذا الاحتياط من الماء إلى الطعام لكان أولى وتشبه بسيرة الصحابة رضى الله عنهم. إذ توضأ عمر رضى الله عنه بماء فى جرة نصرانية مع ظهور احتمال النجاسة. وكان مع هذا يدع أبوابا من الحلال وخوفا من الوقوع فى الحرام. الفرقة الثانية وفرقة أخرى غلب عليهم الوسوسة فى نية الصلاة فلا يدعه الشيطان يعتقد نية صحيحة. بل يوسوس عليه حتى تفوته الجماعة. وتخرج الصلاة عن الوقت. وإن تم تكبيرة الاحرام فيكون فى قلبه تردد. فى صحة نيته. وقد يتوسوس فى التكبيرة فيكون قد تغير صفة التكبير لشدة الاحتياط. ويفوته سماع الفاتحة. ويفعلون ذلك فى أول الصلاة. ثم يفعلون فى جميع الصلاة. ولا يهزون قلوبهم ويغترون بذلك. ولم يعلموا أن حضور القلب فى الصلاة هو الواجب. وإنما غرهم إبليس وزين لهم. وقال لهم: هذا الاحتياط تتميزون به عن العوام وأنتم على خير عند ربكم. الفرقة الثالثة وفرقة أخرى غلب عليها الوسوسة فى إخراج حروف الفاتحة. وسائر الأذكار من مخارجها. فلا تزال تحتاط فى التشديدات. والفرق بين الضاد والظاء. لا يهمه غير ذلك ولا يتفكر فى أسرار الفاتحة ولا فى معانيها. ولم يعلم أنه لم يكلف الخلق فى تلاوة القرآن من تحقيق مخارج الحروف إلا ما جرت به عادتهم فى الكلام. وهذا غرور عظيم. ومثالهم مثال من حمل رسالة إلى مجلس السلطان وأمر أن يؤديها على وجهها. فأخذ يؤدى الرسالة ويتأنق فى مخارج الحروف ويكررها ويعيدها مرة بعد أخرى وهو مع ذلك غافل عن مقصود الرسالة. ومراعاة حرمة المجلس. وبهذا يرد إلى دار المجانين ويحكم عليه بفقد العقل. الفرقة الرابعة وفرقة أخرى اغتروا بقراءة القرآن. فيهدرونه هدرا. وربما يختمونه فى اليوم والليلة ختما. وألسنتهم تجرى به. وقلوبهم تتردى فى أودية الأماني والتفكر فى الدنيا. ولا يتفكر فى معانى القرآن. لينزجر بزواجره. ويتعظ بمواعظه. ويقف عند أوامره ونواهيه. ويعتبر بمواضع الاعتبار منه. ويتلذذ به من حيث المعنى لا من حيث النظم. ومن قرأ كتاب الله تعالى فى اليوم والليلة مائة مرة. ثم ترك أوامره ونواهيه فهو مستحق العقوبة. وربما قد يكون له صوت لين فهو يقرأ ويتلذذ به. ويغتر باستلذاذه. ويظن أن ذلك مناجاة الله سبحانه تعالى. وسماع كلامه. وهيهات ما أبعده. إذا لذاته فى صوته. ولو أدرك لذة كلام الله تعالى ما نظر إلى صوته وطيبه. ولا تعلق خاطره به. ولذة كلام الله إنما هى من حيث المعنى. الفرقة الخامسة وفرقة أخرى اغتروا بالصوم. وربما صاموا الدهر. وصاموا الأيام الشريفة وهم فيها لا يحفظون ألسنتهم من الغيبة. ولا خواطرهم من الربا. ولا بطونهم من الحرام عند الافطار ولا من الهذيان من أنواع الفضول. وذلك غرور عظيم. وهؤلاء تركوا الواجب. وأبقوا المندوب. فظنوا أنهم يسلمون. وهيهات. إنما يسلم من أتى الله بقلب سليم. الفرقة السادسة وفرقة أخرى أخذت فى طريق الخشية والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ينكر على الناس. ويأمرهم بالخير وينسى نفسه!. وإذا أمرهم بالخير عنف وطلب الرياسة والعزة. وإذا باشر منكرا أنكر عليه. وغضب وقال: أنا المحتسب. فكيف تنكر علىَّ. وقد تجمع الناس فى مجلسه أو مسجده. ومن تأخر عنه أغلظ عليه القول. وإنما غرضه الرياء والسمعة وحب الرئاسة. وعلامة أنه لو قام بالمسجد غيره تجرأ عليه. بل منهم من يؤذن ويظن أنه يؤذن لله تعالى ولو جاء غيره وأذن فى وقت غيبته قامت عليه القيامة. وقال: لم أخذ حقى!. وزوحمت!. ومنهم من يتقيد أمام مسجد ويظن أنه على خير. وإنما غرضه أن يقال: إنه إمام المسجد. الفرقة السابعة وفرقة أخرى جاوروا بمكة والمدينة واغتروا بهما. ولم يراقبوا قلوبهم. ولم يطهروا ظواهرهم وبواطنهم. وربما كانت قلوبهم متعلقة ببلادهم. وتراهم يتحدثون بذلك. ويقولون: جاورنا بمكة كذا كذا سنة. وهم مغرورون لأن الأقوم لهم أن يكونوا ببلدة وقلوبهم متعلقة بمكة. وإن جاور أحدهم يجب عليه أن يحفظ حق الجوار. فإن جاور بمكة حفظ حق الله تعالى. وإن جاور بالمدينة حفظ حق النبى صلّى الله عليه وسلم. ومن يقدر على ذلك. وهؤلاء مغرورون بالظواهر. وظنوا أن الحيطان تنجيهم. وهيهات. وربما لا تسمح نفسه بلقمة يتصدق بها على فقير. وما أصعب المجاورة فى حق الخلق. فكيف بمجاورة الخالق!. وما أحسن مجاورته بحفظ جوارحه وقلبه. الفرقة الثامنة وفرقة أخرى زهدت فى المال وقنعت من الطعام واللباس بالدون. ومن السكن بالمساجد. وظنت أنها أدركت رتبة الزهاد. وهم مع ذلك راغبون فى الرياسة والجاه. والزهادة إنما تحصل بأحد أشياء: إما بالتعلم أو بالوعظ. أو بمجرد الزهد. فلقد تركوا أهون الأمرين. وباءوا بأعظم المهلكات. فإن الجاه أعظم من المال. ولو أخذ المال وترك الجاه. كان إلى السلامة أقرب. وهؤلاء مغرورون بظنهم أنهم من الزهاد فى الدنيا. ولم يفهموا كيف مكر بهم. وربما تقدم الأغنياء على الفقراء. ومنهم من يعجب بعلمه. ومنهم من يؤثر الخلوة وهو عن شروطها خال. ومنهم من يعطى المال فلا يأخذه خيفة أن يقال بطل زهده. وهو راغب فى الدنيا. خائف من ذم الناس. ومنهم من شدد على نفسه فى أعمال الجوامع. حتى يصلى فى اليوم مثلا ألف ركعة ويختم القرآن وهو فى جميع ذلك لا يخطر له مراعاة القلب وتفقده وتطهيره من الرياء والكبر والعجب وسائر المهلكات. وربما يظن أن العبادة الظاهرة ترجح بها كفة الحسنات. وهيهات ذرة من ذى تقوى. وخلق واحد من خلق الأكياس أفضل من أمثال الجبال عملا بالجوارح. ثم قد يغتر بقول من يقول له: إنك من أوتاد الأرض. وأولياء الله وأحبائه فيفرح لذلك. ويطهر له تزكية نفسه. ولو شوتم يوما واحدا ثلاث مرات أو مرتين لكفر وجاهد من فعل ذلك به. وربما قال لمن سبه: لا يغفر الله لك أبدا. الفرقة التاسعة وفرقة أخرى حرصت على النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض. فتارة يفرح بصلاة الضحى وصلاة الليل. وأمثال هذه النوافل فلا يجد لصلاة الفريضة لذة ولا خير من الله تعالى لشدة حرصه على المبادرة فى أول الوقت. وينسى قوله صلّى الله عليه وسلّم: (ما تقرب المتقربون بأفضل ما افترضه الله عليهم(. وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الغرور. بل قد يتعين على الإنسان فرضان: أحدهما يفوت والآخر لا يفوت. أو نفلان أحدهما يضيق وقته والآخر متسع وقته. فإن لم يحفظ الترتيب كان مغرورا. ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى. فإن المعصية ظاهرة. وإنما الغامض تقديم بعض الطاعات على بعض. كتقديم الفرائض كلها على النوافل. وتقديم فروض الأعيان على فروض الكفايات التى لا قائم بها على ما قدم بها غيره. وتقديم الأهم من فروض الأعيان على ما دونه. وتقديم ما يفوت مثل تقديم حق الوالدة على الوالد. وتقديم الدين على القروض غيره وما أعظم العبد أن ينفذ ذلك ويرتبه. ولكن الغرور فى الترتيب دقيق خفى لا يقدر عليه إلا العلماء الراسخون فى العلم رضى الله عنهم وغفر لهم. الصنف الثالث من المغرورين

أرباب الأموال وفرقهم الفرقة الأولى فرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والصهاريج للماء. وما يظهر للناس. ويكتبون أسماءهم بالآجر عليه. ليتخلده ذكرهم ويبقى بعد الموت أثرهم. وهم يظنون أنهم استحقوا المغفرة بذلك. وقد اغتروا فيه من وجهين. أحدهما: أنهم قد اكتسبوها من الظلم والشبهات والرشا والجهات المحظورة. وهم قد تعرضوا لسخط الله فى كسبها. فإذن قد عصوا الله فى كسبها. فالواجب عليهم فى التوبة ردها إلى ملاكها إن كانوا أحياء أو إلى ورثتهم. فإن لم يبق منهم أحد وانقرضوا فالواجب صرفها فى أهم المصالح. وربما يكون الأهم التفرقة على المساكين. وأى فائدة فى بنيان يستغنى عنه ويتركه ويموت. وإنما غلب على هؤلاء الرياء والشهرة ولذة الذكر. والوجه الثانى: أنهم يظنون بأنفسهم الإخلاص وقصد الخير فى الانفاق. وعلو الأبنية. ولو كلف أحد منهم أن ينفق دينارا على مسكين لم تسمح نفسه بذلك. لأن حب المدح مستكن الفرقة الثانية وفرقة أخرى ربما اكتسبوا الحلال. واجتنبوا الحرام وأنفقوه على المساجد وهى أيضا مغرورة من وجهين: أحدهما: الرياء وطلب السمعة والثناء. فإنه ربما يكون فى جواره أو بلده فقراء وصرف المال إليهم أهم. فإن المساجد كثيرة والغرض منها الجامع وحده فيجزئ عن غيره. وليس الغرض بناء المسجد فى كل سكة وفى كل درب والمساكين والفقراء محتاجون. وإنما خف عليهم دفع المال فى بناء المساجد لظهور ذلك بين الناس. ولما يسمع من الثناء عليه من الخلق فيظن أنه يعمل لله وهو يعمل لغير الله. والله أعلم بذلك. وإنما نيته عليه غضب. وإنما قال: قصدت أنه لله تعالى. والثانى: أنه يصرف ذلك فى زخرفة المساجد وتزيينها بالنقوش المنهى عنها. الشاغلة قلوب المصلين لأنهم ينظرون إليها وتشغلهم عن الخشوع فى الصلاة. وعن حضور القلب. وهو المقصود. وكلما طرأ على المصلين فى صلاتهم وفى غير صلاتهم فهو فى رقبة البانى للمسجد. إذ لا قال الحسن رضى الله عنه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أراد أن يبنى مسجده بالمدينة أتاه جبريل فقال له: (ابنه سبعة أذرع طولاً فى السماء لا تزخرفه ولا تنقشه(. وغرور هؤلاء أنهم رأوا المنكر معروفا فاتكلوا عليه. الفرقة الثالثة وفرقة أخرى ينفقون الأموال فى الصدقات على الفقراء والمساكين. ويطلبون بها المحافل الجامعة. ومن الفقراء من عادته الشكر. والإفشاء للمعروف. ويكرهون التصدق فى السر. ويرون إخفاء الصدقة للفقير لما يأخذه منهم خيانة عليهم. وكفرانا. وربما تركوا جيرانهم جائعين. ولذلك قال ابن عباس رضى الله عنهما:(فى آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب يهوى لهم السفر ويبسط لهم فى الرزق ويرجعون مجرمين مسلوبين يهوى بأحدهم بعيره بين القفار والرمال وجاره مأسور إلى جنبه فلا يواسيه ولا يتفقده(. الفرقة الرابعة وفرقة أخرى من أرباب الأموال. يحفظون الأموال. ويمسكونها بحكم البخل ويشتغلون بالعبادات الدينية التى لا يحتاجون فيها إلى نفقة. كصيام النهار. وقيام الليل. وختم القرآن. وهؤلاء مغرورن. لأن البخل المهلك قد استولى على باطنهم. فهم محتاجون إلى قمعه بإخراج المال. فاشتغلوا بطلب فضائل وهم مشتغلون عنها. ومثالهم مثال من دخلت فى ثوبه حية. وقد أشرف على الهلاك. وهم مشغول عنها بطلب السكنجبين ليسكن به الصفراء. ومن لدغته الحية كيف يحتاج إلى ذلك!. ولذلك قيل لبشر الحافى: إن فلانا كثير الصوم والصلاة. فقال: المسكين ترك حاله. ودخل فى حال غيره. وإنما حال هذا إطعام الطعام للجائع. والإنفاق على المساكين. فهو أفضل له من تجويع نفسه. ومن صلاته. مع جمعه للدنيا ومنعه للفقراء. الفرقة الخامسة وفرقة أخرى غلب عليهم البخل. فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط. ثم إنهم يخرجونها من المال الخبيث الردئ الذى يرغبون عن. ويطلبون من الفقراء من يخدمهم. ويتردد فى حاجاتهم. أو من يحتاج إليه فى المستقبل للاستئجار لهم فى الخدمة. ومن لهم فيه غرض. ويسلمونها إلى شخص بعينه واحد من الكبار. ممن يستظهر بخشيته. لينال بذلك عنده منزلة. فيقوم بحاجته. وكل ذلك مفسد للنية ومحبط للعمل وصاحبه مغرور يظن أنه مطيع لله تعالى وهو فاجر إذا يطلب بعبادة الله تعالى عوضا من غيره. فهذا وغيره وأمثاله مغرورون بالأموال. الفرقة السادسة وفرقة أخرى من عوام الخلق وأرباب والأموال والفقراء. اغتروا بحضور مجالس الذكر. واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم. فاتخذوا ذلك عادة ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون العمل. ودون الاتعاظ أجرا. وهم مغرورن لأن فضل مجالس الذكر لكونها رغبة فى الخير. وإذا لم تهج الرغبة فلا خير فيها. والرغبة محمودة. لأنها تبعث على العمل. وإن لم تبعث على العمل فلا خير فيها. وربما يغتر بما يسمعه من الوعظ. وإنما يداخله رقه كرقة النساء فيبكى!. وربما يسمع كلاما مخوفا فلا يزال يصفر بين يديه ويقول: يا سلام سلم!. ونعوذ بالله!. والحمد لله. وحسبى الله ولا حول ولا قوة إلا بالله!. ويظن أنه قد أتى بالخير كله. وهو مغرور. ومثاله مثال المريض. الذى يحضر إلى مجالس الأطباء. ويسمع ما يصفونه من الأدوية ولا يعقلها. ولا يشتغل بها ويظن أنه يجد الراحة بذلك. والجائع الذى يحضر عنده من يصف له الأطعمة اللذيذة. فكل وعظ لا يغير منك صفة تغير بدونها أفعالك. حتى تقبل على الله وتعرض عن الدنيا. وتقبل إقبالاً قويا. وإن لم تفعل فذلك الوعظ زيادة حجة عليك. فإذا رأيته وسيلة لك كنت مغرورا. الصنف الرابع من المغرورين المتصوفة

وما أغلب الغرور على هؤلاء المغرورين!! الفرقة الأولى منهم متصوفة أهل هذا الزمان إلا من عصمه الله. اغتروا بالزى والمنطق والهيبة. فشابهوا الصادقين من الصوفية فى زيهم وهيئتهم وألفاظهم وآدابهم ومراسمهم واصطلاحاتهم. وأموالهم الظاهرة فى السماع. والرقص. والطهارة. والصلاة. والجلوس على السجادة مع إطراق الرأس. وإدخاله فى الجيب كالمتفكر وفى أنفاس الصعداء. وفى خفض الصوت فى الحديث. وفى الصياح. إلى غير ذلك. فلما تعلموا ذلك ظنوا أن ذلك ينجيهم. ولم يتعبوا أنفسهم قط بالمجاهدة. والرياضة والمراقبة للقلب فى تطهير الباطن والظاهر من الآثار الخفية والجلية. وكل ذلك من منازل الصوفية. ثم إنهم يتكالبون على الحرام والشبهات. وأموال السلاطين. ويتنافسون فى الرغيف. والفلس والحبة. ويتحاسدون على النقير والقطمير. ويمزق بعضهم أعراض بعض مهما خالفه فى شئ من غرضه. وهؤلاء مغرورن. ومثالهم مثال عجوز سمعت أن الشجعان والأبطال والمقاتلين ثبتت أسماؤهم فى الديوان فتزيت بزيهم. ووصلت إلى الملك. فعرضت على ميزان العرض. فوجدت عجوز سوء. فقيل لها: أما تستحين فى استهتارك بالملك! اطرحوها حول الفيل. فطرحوها حول الفيل فركضها حتى ماتت الفرقة الثانية وفرقة أخرى ازدادت على هؤلاء فى الغرور. إذا صعب عليها الاقتداء فى بذاذة الثياب. والرضا بالدون فى المطعم والمنكح والمسكن. وأرادت أن تتظاهر بالتصوف. ولم تجد بدا من التزيى بزيهم. فتركت الخز والإبريسم. وطلبت المرقعات النفسية. والفوط الرقيقة. والسجادة المصبوغة. وقيمتها أكثر من قيمة الخز والإبريسم. ولا يجتنبون معصية ظاهرة. فكيف باطنه. وإنما غرضهم رغد العيش. وأكل أموال السلاطين. وهم مع ذلك يظنون بأنفسهم الخير. وضرر هؤلاء أشد من ضرر اللصوص. لأن هؤلاء يسرقون القلوب بالزى. ويقتدى بهم الغير. فيكون بسبب هلاكهم. وإن اطلع على فضائحهم ربما ظن أهل التصوف كذلك. فيصرح بذم الصوفية على الإطلاق. الفرقة الثالثة وفرقة أخرى ادعت علم المكاشفة. ومشاهدة الحق. ومجاوزة المقامات. والوصول والملازمة فى عين الشهود. والوصول إلى القرب. ولا يعرف ذلك. ولا وصل إليه باللفظ والإثم. ويلفق من الألفاظ الطامة كلمات. فهو يردها. ويعلن أن ذلك أعلى من علم الأولين والآخرين. وهو ينظر إلى الفقراء والمقرئين. والمفسرين والمحدثين. وأصناف العلماء بعين الازدراء فضلا عن العوام. حتى أن الفلاح ليترك فلاحته. والحايك حياكته. ويلازمهم أياما معدودة. ويتلقف تلك الكلمات الزائفة. فتراه يرددها كأنه يتكلم عن الوحى. ويخبر عن أسرار الأسرار ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء. فيقول فى العباد: أجراء متعبدون. ويقول فى العلماء: إنهم بالحديث محجوبون. ويدعى لنفسه أنه الواصل إلى الحق. وأنه من المقربين. وهو عند الله من الفجار المنافقين. وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين. لم يحكم قط علماً. ولا يهذب خلقاً. ولا يراقب قلباً سوى اتباع الهوى. وتلفيق الهذيانات. ولو اشتغلوا بما ينفعهم كان أحسن لهم. الفرقة الرابعة وفرقة أخرى جاورت هؤلاء فأحسنت الأعمال. وطلبت الحلال. واشتغلت بتفقد القلب. وصار أحدهم يدعى المقامات من الزهد. والتوكل. والرضا. والحب من غير وقوف على حقيقة هذه المقامات وشروطها وعلاماتها وآفاتها. فمنهم من يدعى الوجد وحب الله تعالى. ويزعم أنه واله بالله تعالى. ولعله قد يتخيل بالله تعالى خيالات فاسدة هى بدعة وكفر. فيدعى حب الله تعالى وقيل معرفته. وذلك لا يتصور قط. ثم إنه لا يخلو من مفارقة ما يكره الله تعالى. وإيثار هوى نفسه على أمر الله تعالى. وعن ترك الأمور حياء من الخلق. ولو خلا ما تركها حياء من الله تعالى. وليس يدرى أن كل ذلك يناقض الحب. وبعضهم ربما يميل إلى القناعة والتوكل فيخوض البوادى من غير زاد ليصحح التوكل. وليس يدرى أن ذلك بدعة لم تنقل عن السلف والصحافة رضى الله عنهم أجمعين. وقد كانوا أعرف بالتوكل منه. وما فهموا من التوكل المخاطرة بالروح وترك الزاد. بل كانوا يأخذون الزاد وهم متوكلون على الله تعالى على لا الزاد. وهذا ربما يترك الزاد وهو متوكل على سبب من الأسباب واتقى به. وما مقام من المقامات المنجية إلا وفيها غرور. وقد اعتبرها قوم. وقد ذكرنا مداخل الآفات فيها ربع المنجيات فى الإحياء. الفرقة الخامسة وفرقة أخرى ضيقت على أنفسها أمر القوت حتى طلبت منه الحلال الخالص. وأهملت تفقد القلب والجوارح فى غير هذه الخصلة الواحدة. ومنهم من أهمل الحلال فى مطعمه وملبسه ومكسبه فيتعمق فى ذلك. ولم يدر المسكين أن الله تعالى لم يرض من العباد إلا بالكمال فى الطاعات فمن اتبع البعض وأهل البعض فهو مغرور. الفرقة السادسة وفرقة أخرى ادعت حسن الخلق والتواضع والسماحة. وقصدوا الخدمة للصوفية. فجمعوا قوما وتكلفوا خدمتهم. واتخذوا ذلك شبكة لحطام الدنيا. وجمعا للمال. وإنما غرضهم التكثير والتكبير. وهم يظهرون أن غرضهم الخدمة والتبعية. ثم إنهم يجمعون من الحرام والشبهات لينفقوا عليهم. ليكثر أتباعهم. وينشر بالخدمة اسمهم. وبعضهم يأخذ من أموال السلطان وينفق عليهم. وبعضهم يأخذها لينفق فى طريق الحج على الصوفية. ويزعم أن غرضهم البر والإنفاق. وباعث جميعهم الرياء والسمعة. وذلك بإهمالهم لجميع أوامر الله تعالى ظاهرا. ورضاهم بأخذ الحرام والإنفاق منه. ومثال ذلك: كالذى ينفق ماله فى طريق الحاج. وكمن يعمر مسجد الله تعالى ويطينه بالعذرة ويزعم أن قصده العمارة. الفرقة السابعة وفرقة أخرى اشتغلت بالمجاهدة وتهذيب الأخلاق. وتطهير النفس من عيوبها. وصاروا يتعمقون فيها. فاتخذوا البحث عن عيوب النفس ومعرفة خداعها علما وحرفة لهم. فهم فى جميع الأحوال يشتغلون بالفحص عن عيوب النفس. واستنباط دقيق الكلام فى آفاتها. فيقولون: هذا فى النفس عيب. والغفلة فى كونه عيبا عيب. ويشتغلون فيها بكلمات متلبسة. وضيعوا فى ذلك أوقاتهم. وكأنهم وقفوا مع أنفسهم. ولم يشتغلوا بخالقهم. فمثالهم مثال من اشتغل بأوقات الحج وعوائقه. ولم يسلك طريق الحج. وذلك لم يغنه عن الحج. الفرقة الثامنة وفرقة أخرى جاوزت هذه المرتبة. وابتدأوا سلوك الطريق. وانفتحت لهم أبواب المعرفة. فكلما شموا من مبادئ المعرفة رائحة تعجبوا منها. وفرحوا بها. وأعجبهم غراسها. فتعلقت قلوبهم بالالتفات إليها. والتفكر فيها. وفى كيفية انفتاح بابها عليهم. واشتدادها على غيرهم. وكل ذلك غرور. لأن عجائب طريق الله تعالى ليس لها نهاية. فمن وقف مع كل أعجوبة. وتقيد بها قصرت خطاه. وحرم الوصول إلى المقصد. ومثاله مثال من قدم على ملك. فرأى باب ميدانه روضة فيها أزهار وأنوار. ولم يكن قد رآها قبل ذلك. ولا رأى مثلها. فوقف ينظر إليها حتى فاته الوقت الذى يمكنه اللقاء بالملك فانصرف خائبا. الفرقة التاسعة وفرقة أخرى جاوزت هؤلاء. ولم تلتفت إلى ما يفيض عليهم من الأنوار فى الطريق. ولا إلى ما تيسر لهم من العطايا الجزيلة. ولم يلتفتوا إليها. ولا عرجوا عليها. جادين فى السير. فلما قاربوا الوصول ظنوا أنهم وصلوا. فوقفوا. ولم يتعدوا ذلك. وغلطوا. فإن لله سبعين حجابا من نور وظلمة. ولا يصل السالك إلى حجاب من تلك الحجب إلا ويظن أنه قد وصل. وإليه الإشارة بقوله تعالى إخبار عن إبراهيم عليه أفضل الصلاة والسلام إذ قال:(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا) الآية. وما أكثر الحجب فى هذا المقام. فأول حجاب بين العبد وربه نفسه. فإنه أمر ربانى عظيم. وهو نور من أنوار الله تعالى. أعنى سر القلب الذى سيجلى حقيقة الحق كما هو حتى أنه يسمع جملة العالم كله. ويحيط به صور الورى. فعند ذلك سيشرق نوره إشراقا عظيما. إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه. وهو فى أول الأمر محجوب بمشكاة هى الساترة له. فإذا تجلى نوره وانكشف جمال القلب بعد إشراق نور الله تعالى عليه. ربما التفت صاحب القلب إلى القلب. فرأى من جماله الفائق ما يدهشه. فربما صرح وقال: أنا الحق. فإن لم يتضح ما وراء ذلك. ووقف عنك هلك. وبهذه العين نظر النصارى إلى المسيح عليه الصلاة والسلام. لما رأوا من إشراق نور الله تعالى عليه. فغلطوا. كمن رأى كوكبا فى مرآة. أو فى ماء. فيظن أن الكواكب المرآة. فيمد يده ليأخذه. فهو مغرور. هل هناك أنواع أخرى فى طريق السلوك وأنواع الغرور فى طريق السلوك إلى الله. لا تستقصى إلا بعد شرح جميع العلوم الخفية. وذلك لا رخصة فى ذكره. وقد يجوز إظهاره حتى لا يقع المغرور فيها. وبالله التوفيق. وهو حسبى ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. تم ذلك بحمد الله وعونه على يد كاتبه لنفسه ولمن شاء الله من بعده راجى عفو ربه القريب المجيب الفقير عثمان ابن العلامة الشيخ سلمان الشافعى السويفى غفر الله ولوالديه وللمسلمين. وصلّى الله على محمد وآله وصحبه.

المنقذ من الضلال الإمام أبي حامد الغزالي

 

المحتويات
المقدمة
مَدَاخِلُ السَفْسَطة وجَحْد العُلوم
القَولُ في أصْنَافِ الطَّالبْين
عِلْمُ الكَلاَم: مَقْصُوده وحَاصِله
الفَلسْفَة
القَولُ ِفي مَذْهَبِ التَّعلِيم وغَائِلَته
طرُق الصُّوفِيَّة
حَقيقَة النُبُوَّة: واضطِرار كَافةِ الخَلق إليهَا
سَبَب نشر العِلْم بعَدْ الإعرَاضِ عَنـه
  ----
المنقذ من الضلال الإمام أبي حامد الغزالي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يفتتح بحمده كل رسالة ومقالة ، والصلاة على محمد المصطفى صاحب النبوة والرسالة ، وعلى آله وأصحابـه الهادين من الضلالة.
أما بعد: فقد سألتني أيها الأخ في الدين ، أن أبثّ إليك غاية العلوم وأسرارها ، وغائلة المذاهب وأغوارها ، وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق ، مع تباين المسالك والطرق ، وما استجرأت عليه من الارتفاع عن حضيض التقليد ، إلى يفَاعٍ الاستفسار ، وما استفدته أولاً من علم الكلام ، وما اجَتَوْيـُته ثانياً من طرق أهل التعليم القاصرين لَدرك الحق على تقليد الإمام ، وما ازدريته ثالثاً من طرق التفلسف ، وما ارتضيته آخراً من طريقة التصوف ، وما انجلى لي في تضاعيف تفتيشي عن أقاويل الخلق ، من لباب الحق ، وما صرفني عن نشر العلم ببغداد ، مع كثرة الطلبة ، وما دعاني إلى معاودته بنيْسابورَ بعد طول المدة ، فابتدرت لإجابتك إلى مطلبك ، بعد الوقوف على صدق رغبتك ، وقلت مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه ، ومستوثقاً منه ، وملتجئاً إليه:
اعلموا - أحسن الله ( تعالى ) إرشادكم ، وألاَنَ للحق قيادكم - أن اختلاف الخلق في الأديان والملل ، ثم اختلاف الأئمة في المذاهب ، على كثرة الفرق وتباين الطرق ، بحر عميق غرق فيه الأكثرون ، وما نجا منه إلا الأقلون ، وكل فريق يزعم أنه الناجي ، و ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [الروم: 32] هو الذي وعدنا بـه سيد المرسلين ، صلوات الله عليه ، وهو الصادق الصدوق حيث قال: « ستفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقة الناجية منـها واحدة » فقد كان ما وعد أن يكون.
ولم أزل في عنفوان شبابي ( وريعان عمري ) ، منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن ، وقد أناف السن على الخمسين ، أقتحم لجّة هذا البحر العميق ، وأخوض غَمرَتهُ خَوْضَ الجَسُور ، لا خَوْضَ الجبان الحذور ، وأتوغل في كل مظلمة ، وأتـهجّم على كل مشكلة ، وأتقحم كل ورطة ، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة ، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة ؛ لأميز بين مُحق ومبطل ، ومتسنن ومبتدع ، لا أغادر باطنيًّا إلا وأحب أن أطلع على باطنيته ، ولا ظاهريّاً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته ، ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنـه فلسفته ، ولا متكلماً إلا وأجتهد في الإطلاع على غاية كلامه ومجادلته ، ولا صوفياً إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته ، ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته ، ولا زنديقاً معطلاً إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته. وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري ، غريزة وفطرة من الله وضُعتا في جِبِلَّتي ، لا باختياري وحيلتي ، حتى انحلت عني رابطة التقليد وانكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا ؛ إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوءٌ إلا على التنصُر ، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود ، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام. وسمعت الحديث المروي عن رسول الله ﷺ حيث قال : « كل مولودٍ يولدُ على الفطرةِ فأبواهُ يُهودأنه وينُصرأنه ويُمجِّسَأنه »
فتحرك باطني إلى ( طلب ) حقيقة الفطرة الأصلية ، وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين ، والتمييز بين هذه التقليدات ، وأوائلها تلقينات ، وفي تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات ، فقلت في نفسي:أولاً إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور ، فلا بُد من طلب حقيقة العلم ما هي؟ فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب ، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم ، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك ؛ بل الأمان من الخطأ ينبغي أنا يكون مقارناً لليقين مقارنة لو تحدى بإظهار بطلأنه مثلاً من يقلب الحجر ذهباً والعصا ثعباناً ، لم يورث ذلك شكاً وإنكاراً ؛ فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة ، فلو قال لي قائل: لا ، بل الثلاثة أكثر [ من العشرة ] بدليل أني أقلب هذه العصا ثعباناً ، وقلبها ، وشاهدت ذلك منه ، لم أشك بسببه في معرفتي ، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه! فأما الشك فيما علمته ، فلا. ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين ، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه ، وكل علم لا أمان معه ، فليس بعلم يقيني.
مَدَاخِلُ السَفْسَطة وجَحْد العُلوم
ثم فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطلاً من علم موصوف بـهذه الصفة إلا في الحسيات والضروريات. فقلت: الآن بعد حصول اليأس ، لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليَّات ، وهي الحسيات والضروريات ، فلا بد من إحكامها أولاً لأتيقن أن ثقتي بالمحسوسات ، وأماني من الغلط في الضروريات ، من جنس أماني الذي كان من قَبلُ في التقليديات ، ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات ، أم هو أمان محققٌ لا غدر فيه ولا غائلة له؟ فأقبلت بجد بليغ أتأمل المحسوسات والضروريات ، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها ، فانتهي بي طول التشكك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً ، وأخذت تتسع للشك فيها وتقول : من أين الثقة بالمحسوسات ، وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك ، وتحكم بنفي الحركة ، ثم ، بالتجربة والمشاهدة ، بعد ساعة ، تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة ( واحدة ) بغتة ، بل على التدريج ذرة ذرة ، حتى لم يكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار ، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ، ويكذبـه حاكم العقل ويخونـه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته.
فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً ، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات ، كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة ، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد ، والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً ، موجوداً معدوماً ، واجباً محالاً. فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات ، وقد كنت واثقاً بي ، فجاء حاكم العقل فكذبني ، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي ، فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر ، إذا تجلى ، كذب العقل في حكمه ، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه ، وعدم تجلي ذلك الإدراك ، لا يدل على استحالته. فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً ، وأيدت إشكالها بالمنام ، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أموراً ، وتتخيل أحوالاً ، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً ، ولا تشك في تلك الحالة فيها ، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل ؛ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك [ التي أنت فيها ] ؛ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك ، كنسبة يقظتك إلى منامك ، وتكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها! فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها ، ولعل تلك الحالة ما تدعيه الصوفية أنـها حالتهم ؛ إذ يزعمون أنـهم يشاهدون في أحوالهم التي ( لهم ) ، إذا غاصوا في أنفسهم ، وغابوا عن حواسهم ، أحوالاً لا توافق هذه المعقولات. ولعل تلك الحالة هي الموت ، إذ قال رسول الله ﷺ: « الناسُ نيامٌ فإذا ماتوا انتبـهوا »
فلعل الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة. فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن ، ويقال له عند ذلك: ﴿ فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ق: 22]
فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس ، حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر ، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل ، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية ، فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن تركيب الدليل. فأعضل هذا الداء ، ودام قريباً من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال ، لا بحكم النطق والمقال ، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض ، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بـها على أمن ويقين ؛ ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام ، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف ، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله [ تعالى ] الواسعة ؛ ولما سئل رسول الله ﷺ عن ( الشرح ) ومعناه في قوله تعالى: ﴿ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ﴾ [الأنعام: 125]
قال: « هو نور يقذفه الله تعالى في القلب » فقيل: (وما علامته ؟) قال: « التجافي عن دار الغُرُورِ والإنابة إلى دارِ الخُلُود » . وهو الذي قال ﷺ فيه: « إن الله تعالى خلق الخلقَ في ظُلْمةٍ ثم رشَّ عليهمْ من نُورهِ »
فمن ذلك النور ينبغي أن يطلب الكشف ، وذلك النور ينبجس من الجود الإلهي في بعض الأحايين ، ويجب الترصد له كما قال ﷺ: « إن لربكم في أيامِ دهركم نفحاتٌ ألا فتعرضُوا لها » والمقصود من هذه الحكايات أن يعمل كمال الجد في الطلب ، حتى ينتهي إلى طلب ما لا يطلب. فإن الأوليات ليست مطلوبة ، فأنـها حاضرة. والحاضر إذا طلب فقد واختفى. ومن طلب ما لا يطلب ، فلا يتهم بالتقصير في طلب ما يطلب.
القَولُ في أصْنَافِ الطَّالبْين
ولما شفاني الله من هذا المرض بفضله وسعة جوده ، أنحصرت أصناف الطالبين عندي في أربع فرق:
المتكلمون: وهم يدَّعون أنـهم أهل الرأي والنظر.
الباطنية: وهم يزعمون أنـهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالاقتباس من الإمام المعصوم.
الفلاسفة: وهم يزعمون أنـهم أهل المنطق والبرهان.
الصوفية: وهم يدعون أنـهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة والمكاشفة.
فقلت في نفسي : الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة ، فهؤلاء هم السالكون سبل طلب الحق ، فإن شذَّ الحق عنهم ، فلا يبقى في درك الحق مطمع ، إذ لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته ؛ و( من ) شرط المقلد أن لا يعلم أنه مقلد ، فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده ، وهو شعب لا يرأب ، وشعث لا يلم بالتلفيق والتأليف ، إلا أن يذاب بالنار ، ويستأنف له صنعة أخرى مستجدة. فابتدرت لسلوك هذه الطرق ، واستقصاء ما عند هذه الفرق. مبتدئاً بعلم الكلام. ومثنياً بطريق الفلسفة ، ومثلثاً بتعلم الباطنية ، ومربعاً بطريق الصوفية.
* *
عِلْمُ الكَلاَم: مَقْصُوده وحَاصِله
ثم إني ابتدأت بعلم الكلام ، فحصَّلته وعقلته ، وطالعت كتب المحققين منهم ، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف ، فصادفته علماً وافياً بمقصوده ، غير وافٍ بمقصودي ؛ وإنما المقصود منه حفظ عقيدة أهل السنة [ على أهل السنة ] وحراستها عن تشويش أهل البدعة. فقد ألقى الله ( تعالى ) إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق ، على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم ، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار ، ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أموراً مخالفة للسنة ، فلهجوا بـها وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها. فأنشأ الله تعالى طائفة المتكلمين ، وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب ، يكشف عن تلبيسات أهل البدع المحدثة ، على خلاف السنة المأثورة ؛ فمنه نشأ علم الكلام وأهله. ولقد قام طائفة منهم بما ندبـهم الله ( تعالى ) إليه ، فأحسنوا الذب عن السنة ، والنضال عن العقيدة المتلقاة بالقبول من النبوة ، والتغيير في وجه ما أحدث من البدعة ؛ ولكنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم ، واضطرهم إلى تسليمها: إما التقليد ، أو إجماع الأمة ، أو مجرد القبول من القرآن والأخبار. وكان أكثر خوضهم في استخراج مناقضات الخصوم ، ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم. وهذا قليل النفع في حق من لا يسلم سوى الضروريات شيئاً ( أصلاً ) ، فلم يكن الكلام في حقي كافياً ، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافياً. نعم ، لما نشأت صنعة الكلام وكثر الخوض فيه وطالت المدة ، تشوق المتكلمون إلى محاولة الذبّ ( عن السنة ) بالبحث عن حقائق الأمور ، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها. ولكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم ، لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى ، فلم يحصل منه ما يمحق بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق ؛ ولا أبعدُ أن يكون قد حصل ذلك لغيري! بل لست أشك في حصول ذلك لطائفة ولكن حصولاً مشوباً بالتقليد في بعض الأمور التي ليست من الأوليات! والغرض الآن حكاية حالي ، لا الإنكار على من استشفى به ، فإن أدوية الشفاء تختلف باختلاف الداء. وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر بـه آخر!
* *
الفَلسْفَة
· محصولها. · المذموم منها وما لا يذم. · وما يكفر به قائلة وما لا يكفر به. · وما يبتدع فيه وما لا يبتدع. · وبيان ما سرقه الفلاسفة من كلام أهل الحق. · وبيان ما مزجوه بكلام أهل الحق لترويج باطلهم في درج ذلك. · وكيفية عدم قبول البشر وحصول نفرة النفوس من ذلك الحق الممزوج بالباطل. · وكيفية استخلاص الحق الخالص من الزيف والبهرج من جملة كلامهم. ثم إني ابتدأت ، بعد الفراغ من علم الكلام ، بعلم الفلسفة وعلمت يقيناً ، أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم ، من لا يقف على منتهى ذلك العلم ، حتى يساوي أعلمهم في أصل [ ذلك ] العلم ، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته ، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائله ، وإذا ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقّاً. ولم أر أحداً من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك. ولم يكن في كتب (( المتكلمين )) من كلامهم ، حيث اشتغلوا بالرد عليهم ، إلا كلمات معقدة مبددة ، ظاهرة التناقض والفساد ، لا يظن الاغترار بـها بعاقل عامي ، فضلاً عمن يدعي دقائق العلوم. فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والإطلاع على كنهه رمى في عماية ، فشمرت عن ساق الجد ، في تحصيل ذلك العلم من الكتب ، بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذ ، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية ، وأنا ممنو بالتدريس والإفادة لثلاثمائة نفر من الطلبة ببغداد. فأطلعني الله سبحأنه [ وتعالى ] بمجرد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة ، على منتهى علومهم في أقل من سنتين. ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريباً من سنة ، أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره ، حتى اطَّلعت على ما فيه من خداع وتلبيس ، وتحقيق وتخييل ، اطلاعاً لم أشك فيه. فاسمع الآن حكايتهم وحكاية حاصل علومهم ؛ فإني رأيتهم أصنافاً ، ورأيت علومهم أقساماً ؛ وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم وصمة الكفر والإلحاد ، وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين ، وبين الأواخر منهم والأوائل ، تفاوت عظيم في البعد عن الحق والقرب منه.
* * *
أَصْناَف الفَلاَسِفةَ وشُمول وَصْمَة الكُفِر َكافَّتهمُ اعلم: أنـهم ، على كثرة فرقهم واختلاف مذاهبـهم ، ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: الدهريون ، والطبيعيون ، والإلهيون. الصنف الأول: الدهريون:- وهم طائفة من الأقدمين جحدوا الصانع المدبر ، العالم القادر ، وزعموا أن العالم لم يزل موجوداً كذلك بنفسه بلا صانع ، ولم يزل الحيوان من النطفة ، والنطفة من الحيوان ، كذلك كان ، وكذلك يكون أبداً وهؤلاء هم الزنادقة. والصنف الثاني: الطبيعيون:- وهم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة ، وعن عجائب الحيوان والنبات ، وأكثروا الخوض في علم تشريح أعضاء الحيوانات ، فرأوا فيها من عجائب صنع الله تعالى وبدائع حكمته ، مما اضطروا معه إلى الاعتراف بفاطر حكيم ، مطلع على غايات الأمور ومقاصدها. ولا يطالع التشريح وعجائب منافع الأعضاء مطالع ، إلا ويحصل له هذا العلم الضروري بكمال تدبير الباني لبنية الحيوان ؛ لا سيما بنية الإنسان. إلا أن هؤلاء ، لكثرة بحثهم عن الطبيعة ، ظهر عندهم - لاعتدال المزاج - تأثير عظيم في قوام قوى الحيوان بـه. فظنوا أن القوة العاقلة من الإنسان تابعة لمزاجه أيضاً ، وأنـها تبطل ببطلان مزاجه فتنعدم . ثم إذا انعدمت ، فلا يعقل إعادة المعدوم كما زعموا. فذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعود ، فجحدوا الآخرة ، وأنكروا الجنة والنار ، [ والحشر والنشر ] ، والقيامة والحساب ، فلم يبق عندهم للطاعة ثواب ، ولا للمعصية عقاب ، فانحل عنهم اللجام وأنـهمكوا في الشهوات أنـهماك الأنعام. وهؤلاء أيضاً زنادقة لأن أصل الإيمان هو الإيمان بالله واليوم الآخر. وهؤلاء جحدوا اليوم الآخر ، وإن آمنوا بالله وصفاته. والصنف الثالث: الإلهيون :- وهم المتأخرون منهم ، [ مثل ]: سقراط ، وهو أستاذ أفلاطون ، وأفلاطون أستاذ أرسطاطاليس ، وأرسطاطاليس هو الذي رتب [ لهم ] المنطق ، وهذَّب لهم العلوم ، وحرّر لهم ما لم يكن محرراً من قبلُ ، وأنضَجَ لهم ما كان فِجّاً من علومهم ، وهم بجملتهم ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعية ، وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا بـه غيرهم. (( وكفى الله المؤمنين القتال )) بتقاتلهم. ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ، ومن كان قبلهم من الإلهيين ، ردّاً لم يقصر فيه حتى تبرأ عن جميعهم ؛ إلا أنه استبقى أيضاً من رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنـزوع عنها ، فوجب تكفيرهم ، وتكفير شيعتهم من المتفلسفة الإسلاميين ، كابن سينا والفارابي و غيرهم . على أنه لم يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من متفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين. وما نقله غيرهما ليس يخلو من تخبيط وتخليط يتشوش فيه قلب المطالع حتى لا يفهم. وما لا يُفهم كيف يُرد أو يقبل؟ ومجموع ما صح عندنا من فلسفة أرسطاطاليس ، بحسب نقل هذين الرجلين ، ينحصر في ثلاثة أقسام: - 1. قسم يجب التفكير به. 2. وقسم يجب التبديع به. 3. وقسم لا يجب إنكاره أصلاً فلنفصله .
* *
أَقْسَامِ عُلومِهم أعلم: أن علومهم - بالنسبة إلى الغرض الذي نطلبه - ستة أقسام: رياضية ، ومنطقية ، وطبيعية ، وإلهية ، وسياسية ، وخلقية. 1 - أما الرياضية: فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم ، وليس يتعلق شيء منها بالأمور الدينية نفياً وإثباتاً ، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدته بعد فهمها ومعرفتها. وقد تولدت منها آفتان: احداهما الأولى: ان من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها ، فيحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة ، ويحسب أن جميع علومهم في الوضوح [ وفي ] وثاقة البرهان كهذا العلم. ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيلهم وتـهاونـهم بالشرع ما تناولته الألسن فيكفر بالتقليد المحض ويقول: لو كان الدين حقاً لما اختفى على هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العلم! فإذا عرف بالتسامع كفرهم وجحدهم استدل على أن الحق هو الجحد والإنكار للدين. وكم رأيت ممن يضل عن الحق بـهذا العذر ولا مستند له سواه! وإذا قيل له: الحاذق في صناعة واحدة ليس يلزم أن يكون حاذقاً في كل صناعة ، فلا يلزم أن يكون الحاذق في الفقه والكلام حاذقاً في الطب ، ولا أن يكون الجاهل بالعقليات جاهلاً بالنحو ، بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها [ رتبة ] البراعة والسبق. وإن كان الحمق والجهل ( قد ) يلزمهم في غيرها. فكلام الأوائل في الرياضيات برهاني ، وفي الإلهيات تخميني ؛ لا يعرف ذلك إلا من جرّبه وخاض فيه. فهذا إذا قرر على هذا الذي ألحَدَ بالتقليد ، لم يقع منه موقع القبول ، بل تحمله غلبة الهوى ، والشهوة الباطلة ، وحب التكايس ، على أن يصر على تحسين الظن بـهم في العلوم كلها. فهذه آفة عظيمة لأجلها يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم ، فأنها وإن لم تتعلق بأمر الدين ، ولكن لما كانت من مبادئ علومهم ، سرى إليه شرهم وشؤمهم ، فقل من يخوض فيها إلا وينخلع من الدين وينحل عن رأسه لجام التقوى. الآفة الثانية: نشأت من صديق للإسلام جاهل ، ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل علم منسوب إليهم: فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها ، حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف ، وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع. فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع ، لم يشك في برهأنه ، ولكن اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع ، فيزداد للفلسفة حبّاً وللإسلام بغضاً. ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم ، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات ، ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية. وقوله صلى الله عليه وسلّم: (( إن الشمس والقمر آيتان من آياتِ الله تعالى لا ينخسفانِ لموتِ أحدٍ ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله تعالى وإلى الصلاة )) . وليس في هذا ما يوجب إنكار علم الحساب المعرف بمسير الشمس والقمر واجتماعهما أو مقابلهما على وجه مخصوص. أما قوله ( عليه السلام ): (( لكن الله إذا تجلى لشيءْ خضع لهُ )) فليس توجد هذه الزيادة في الصحاح أصلاً. فهذا حكم الرياضيات وآفتها. 2 – وأما المنطقيات: فلا يتعلق شيء منها بالدين نفياً وإثباتاً ، بل هي النظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها ، وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه. وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد ، وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان ؛ وليس في هذا ما ينبغي أن ينكر ، بل هو ( من ) جنس ما ذكره المتكلمون وأهل النظر في الأدلة ، وإنما يفارقونـهم بالعبارات والاصطلاحات ، بزيادة الاستقصاء في التعريفات والتشعيبات ، ومثال كلامهم فيها قولهم: إذا ثبت أن كل (( أ )) (( ب )) لزم أن بعض (( ب )) (( أ )) أي إذا ثبت أن كل إنسان حيوان ، لزم أن بعض الحيوان إنسان. ويعبرون عن هذا بأنه الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية. وأي تعلق لهذا بمهمات الدين حتى يجحد وينكر؟ فإذا أنكر لم يحصل من إنكاره عند أهل المنطق إلا سوء الاعتقاد في عقل المنكر ، بل في دينه الذي يزعم أنه موقوف على مثل هذا الإنكار. نعم ، لهم نوع من الظلم في هذا العلم ، وهو أنـهم يجمعون للبرهان شروطاً يعلم أنها تورث اليقين لا محالة ، لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط ، بل تساهلوا غاية التساهل ، وربما ينظر في المنطق أيضاً من يستحسنه ويراه واضحاً ، فيظن أن ما ينقل عنهم من الكفريات مؤيد بمثل تلك البراهين ، فاستعجل بالكفر قبل الانتهاء إلى العلوم الإلهية. فهذه الآفة أيضاً متطرقة إليه. 3 - وأما ( علم ) الطبيعيات: فهو بحث عن عالم السماوات وكواكبها وما تحتها من الأجسام المفردة: كالماء والهواء والتراب والنار ، وعن الأجسام المركبة: كالحيوان والنبات والمعادن ، وعن أسباب تغيرها واستحالتها وامتزاجها. وذلك يضاهي بحث الطب عن جسم الإنسان وأعضائه الرئيسة والخادمة ، وأسباب استحالة مزاجه. وكما ليس من شرط الدين إنكار علم الطب ، فليس من شرطه أيضاً إنكار ذلك العلم ، إلا في مسائل معينة ، ذكرناها في كتاب (( تـهافت الفلاسفة )). وما عداها مما يجب المخالفة فيها ؛ فعند التأمل يتبين أنها مندرجة تحتها ، وأصل جملتها: أن تعلم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى ، لا تعمل بنفسها ، بل هي مستعملة من جهة فاطرها. والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره لا فعل لشيءٍ منها بذاته عن ذاته . 4 – وأما الإلهيات: ففيها أكثر أغاليطهم ، فما قدروا على الوفاء بالبرهان على ما شرطوه في المنطق ، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيها. ولقد قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من مذاهب الإسلاميين ، على ما نقله الفارابي وابن سينا. ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلاً ، يجب تكفيرهم في ثلاثة منها ، وتبديعهم في سبعة عشر. ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين ، صنفنا كتاب ( التهافت ). أما المسائل الثلاث ، فقد خالفوا فيها كافة الإسلاميين وذلك في قولهم: 1 - إن الأجساد لا تحشر ، وإنما المثاب والمعاقَب هي الأرواح المجردة ، ( والمثوبات ) والعقوبات روحانية لا جسمانية ؛ ولقد صدقوا في إثبات الروحانية ، فأنها ثابتة أيضاً ، ولكن كذبوا في إنكار الجسمانية ، وكفروا بالشريعة فيما نطقوا به. 2 - ومن ذلك قولهم: (( إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات )) ؛ وهذا أيضاً كفر صريح ، بل الحق أنه: (( لا يعزب عنـه مثقال ذرةٍ في السمواتِ ولا في الأرضِ )).(سبأ: 3) 3 - ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأزليته فلم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من هذه المسائل. وأما ما وراء ذلك من نفيهم الصفات ، وقولهم إنه عالم بالذات ، لا بعلم زائد (على الذات) وما يجري مجراه ، فمذهبهم فيها قريب من مذهب المعتزلة ولا يجب تكفير المعتزلة بمثل ذلك. وقد ذكرنا في كتاب (( فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة )) ما يتبين به فساد رأي من يتسارع إلى التكفير في كل ما يخالف مذهبه. 4 - وأما السياسيات: فجميع كلامهم فيها يرجع إلى الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية ( والإيالة ) السلطانية ، وإنما أخذوها من كتب الله المنـزلة على الأنبياء ، ومن الحكم المأثورة عن سلف الأنبياء [ عليهم السلام ]. 5 - وأما الخلقية: فجميع كلامهم ( فيها ) يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها ، وذكر أجناسها وأنواعها وكيفية معالجتها ومجاهدتها ، وإنما أخذوها من كلام الصوفية ، وهم المتألهون المواظبون على ذكر الله تعالى ، وعلى مخالفة الهوى وسلوك الطريق إلى الله تعالى بالإعراض عن ملاذِّ الدنيا. وقد انكشف لهم في مجاهدتهم من أخلاق النفس وعيوبـها ، وآفات أعمالها ما صرحوا بـها ، فأخذها الفلاسفة ومزجوها بكلامهم ، توسلاً بالتجمل بـها إلى ترويج باطلهم. ولقد كان في عصرهم ، بل في كل عصر ، جماعة من المتأهلين ، لا يُخلي الله [ سبحانه ] العالم عنهم ، فأنـهم أوتاد الأرض ، ببركاتـهم تنـزل الرحمة على أهل الأرض كما ورد في الخبر حيث قال صلى الله عليه وسلّم: (( بـهم تمطرون وبـهم ترزقون ومنـهم كان أصحاب الكهف )) . وكانوا في سالف الأزمنة ، على ما نطق بـه القرآن ، فتولد من مزجهم كلام النبوة وكلام الصوفية بكتبهم آفتان: آفة في حق القابل وآفة في حق الراد: 1 - أما الآفة التي في حق الراد فعظيمة: إذ ظنت طائفة من الضعفاء أن ذلك الكلام إذا كان مُدوَّناً في كتبهم ، وممزوجاً بباطلهم ، ينبغي أن يُهجر ولا يُذكر بل يُنكر على [ كل ] من يذكره ، إذ لم يسمعوه أولاً إلا منهم ، فسبق إلى عقولهم الضعيفة أنه باطل ، لأن قائله مُبطل ؛ كالذي يسمع من النصراني قوله: (( لا إله إلا الله عيسى رسول الله )) فينكره ويقول: (( هذا كلام النصارى )) ولا يتوقف ريثما يتأمل أن النصراني كافر باعتبار هذا القول ، أو باعتبار إنكاره نبوة محمد عليه الصلاة والسلام!؟ فإن لم يكن كافراً إلا باعتبار إنكاره ، فلا ينبغي أن يخالف في غير ما هو به كافر مما هو حق في نفسه ، وإن كان أيضاً حقاً عنده. وهذه عادة ضعفاء العقول ، يعرفون الحق بالرجال ، لا الرجال بالحق. والعاقل يقتدي بسيد العقلاء علي ، رضي الله عنه حيث قال: (( لا تعرف الحق بالرجال ( بل ) اعرف الحق تعرف أهله )) و ( العارف ) العاقل يعرف الحق ، ثم ينظر في نفس القول: فإن كان حقاً ، قبله سواء كان قائله مبطلاً أو محقاً ؛ بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل الضلال ، عالماً بأن معدن الذهب الرغام. ولا بأس على الصراف إن أدخل يده في كيس القلاب ، وانتزع الإبريز الخالص من الزيف والبهرج ، مهما كان واثقاً ببصيرته ؛ وانما يزجر عن معاملة القلاب القرويُّ ، دون الصيرفي ( البصير ) ؛ ويمنع من ساحل البحر الأخرقُ ، دون السباح الحاذق ؛ ويُصد عن مس الحية الصبي دون المعزِّم البارع. ولعمري! لما غلب على أكثر الخلق ظنهم بأنفسهم الحذاقة والبراعة ، وكمال العقل ( وتمام الآلة ) في تمييز الحق عن ( الباطل ، والهدى عن ) الضلالة ، وجب حسم الباب في زجر الكافة عن مطالعة كتب أهل الضلال ما أمكن ، إذ لا يسلمون عن الآفة الثانية التي سنذكرها ( أصلاً ) وإن سلموا عن ( هذه ) الآفة التي ذكرناها. ولقد اعترض على بعض الكلمات المبثوثة في تصانيفنا في أسرار علوم الدين ، طائفة من الذين لم تستحكم في العلوم سرائرهم ، ولم تنفتح إلى أقصى غايات المذاهب بصائرهم ، وزعمت أن تلك الكلمات من كلام الأوائل ، مع أن بعضها من مولدات الخواطر - ولا يبعد أن يقع الحافر على الحافر - وبعضها يوجد في الكتب الشرعية ، وأكثرها موجود معناه في كتب الصوفية. وهب أنها لم توجد إلا في كتبهم ، فإذا كان ذلك الكلام معقولاً في نفسه ، مؤيداً بالبرهان ، ولم يكن على مخالفة الكتاب والسنة ، فلمَ ينبغي أن يهجر ويترك؟ فلو فتحنا هذا الباب ، وتطرقنا إلى أن يهجر كل حق سبق إليه خاطر مبطل ، للزمنا أن نـهجر كثيراً من الحق ، ولزمنا أن نـهجر جملة آيات من آيات القرآن وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلّم وحكايات السلف وكلمات الحكماء والصوفية ، لأن صاحب كتاب (( إخوان الصفا )) أوردها في كتابـه مستشهداً بـها ومستدرجاً قلوب الحمقى بواسطتها إلى باطله ؛ ويتداعى ذلك إلى أن يستخرج المبطلون الحق من أيدينا بإيداعهم إياه كتبهم. وأقل درجات العالم: أن يتميز عن العامي الغُمر ، فلا يعاف العسل ، وإن وجده في محجمة الحجَّام ، ويتحقق أن المحجمة لا تغير ذات العسل ، فإن نفرة الطبع عنه مبنية على جهل عامي منشؤه أن المحجمة ، إنما صنعت للدم المستقذَر ، فيظن أن الدم مستقذر لكونه في المحجمة ، ولا يدري أنه مستقذر لصفة في ذاته ؛ فإذا عدمت ( هذه ) الصفة في العسل فكونـه في ظرفه لا يكسبه تلك الصفة ، فلا ينبغي أن يوجب له الاستقذار ، وهذا وهم باطل ، وهو غالب على أكثر الخلق. فإذا نسبت الكلام وأسندته إلى قائل حسن فيه اعتقادهم ، قبلوه وإن كان باطلاً ؛ وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقاً. فأبداً يعرفون الحق بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق ، وهو غاية الضلال! هذه آفة الرد. 2 - والآفة الثانية آفة القبول: فإن من نظر في كتبهم (( كإخوان الصفا )) وغيره ، فرأى ما مزجوه بكلامهم من الحكم النبوية ، والكلمات الصوفية ، ربما استحسنها وقبلها ، وحسن اعتقاده فيها ، فيسارع إلى قبول باطلهم الممزوج بـه ، لحسن ظن حصل فيما رآه واستحسنه ، وذلك نوع استدراج إلى الباطل. ولأجل هذه الآفة يجب الزجر عن مطالعة كتبهم لما فيها من الغدر والخطر. وكما يجب صون من لا يحسن السباحة على مزالق الشطوط ، يجب صون الخلق عن مطالعة تلك الكتب. وكما يجب صون الصبيان عن مس الحيَّات ، يجب صون الأسماع عن مختلط الكلمات وكما يجب على المعزِّم أن لا يمس الحية بين يدي ولده الطفل ، إذا علم أن سيقتدي به ويظن أنه مثله ، بل يجب عليه أن يحذّره [ منه ] ، بأن يحذر هو [ في ] نفسه [ ولا يمسها ] بين يديه ، فكذلك يجب على العالم الراسخ مثله. وكما أن المعزِّم الحاذق إذا أخذ الحية وميز بين الترياق والسم ، واستخرج منها الترياق وأبطل السم فليس له أن يشح بالترياق على المحتاج إليه. وكذا الصراف الناقد البصير إذا أدخل يده في كيس القَلاّب ، وأخرج منه الإبريز الخالص ، واطّرح الزيف والبهرج ، فليس له أن يشح بالجيد المرضي على من يحتاج إليه ؛ فكذلك العالم. وكما أن المحتاج إلى الترياق ، إذا اشمأزت نفسه منه ، حيث علم أنه مستخرج من الحية التي هي مركز السم [ وجب تعريفه ] ، والفقير المضطر إلى المال ، إذا نفر عن قبول الذهب المستخرج من كيس القلاّب ، وجب تنبيهه على أن نفرته جهل محض ، هو سبب حرمأنه الفائدة التي هي مطلبه ، وتحتم تعريفه أن قرب الجوار بين الزيف والجيد لا يجعل الجيد زيفاً ، كما لا يجعل الزيف جيداً ، فكذلك قرب الجوار بين الحق الباطل ، لا يجعل الحق باطلاً ، كما لا يجعل الباطل حقاً. فهذا ( مقدار ) ما أردنا ذكره من آفة الفلسفة وغائلتها.
* *
القَولُ ِفي مَذْهَبِ التَّعلِيم وغَائِلَته
ثم إني لما فرغت من علم الفلسفة وتحصيله وتفهمه وتزييف ما يزيف منه ، علمت أن ذلك أيضاً غير وافٍ بكمال الغرض ، وأن العقل ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب ، ولا كاشفاً للغطاء عن جميع المعضلات. وكان قد نبغت نابغة التعليمية ، وشاع بني الخلق تحدثهم بمعرفة معنى الأمور من جهة الإمام المعصوم القائم بالحق ، فعنّ لي أن أبحث في مقالاتـهم ، لأطّلع على ما في كنانتهم. ثم اتفق أن ورد عليّ أمر جازم من حضرة الخلافة ، بتصنيف كتاب يكشف [ عن ] حقيقة مذهبهم. فلم يسعني مدافعته وصار ذلك مستحثاً من خارج ، ضميمة للباعث من الباطن ، فابتدأت بطلب كتبهم وجمع مقالاتـهم. وكذلك قد بلغني بعض كلماتـهم المستحدثة التي ولدتـها خواطر أهل العصر ، لا على المنهاج المعهود من سلفهم. فجمعت تلك الكلمات ، ( ورتبتها ) ترتيباً محكماً مقارناً للتحقيق ، واستوفيت الجواب عنها ، حتى أنكر بعض أهل الحق ( مني ) مبالغتي في تقرير حجتهم ، فقال: (( هذا سعي لهم ، فأنـهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم بـمثل هذه الشبهات لولا تحقيقك لها ، وترتيبك إياها )). وهذا الإنكار من وجه حق ، فقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي ( رحمهما الله ) ، تصنيفه في الرد على المعتزلة ؛ فقال الحارث: (( الرد على البدعة فرض)) فقال أحمد: (( نعم ، ولكن حكيت شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها ؛ فبمَ تأمن أن يطالع الشبهة من يعلق ذلك بفهمه ، ولا يلتفت إلى الجواب ، أو ينظر في الجواب ولا يفهم كنهه؟ )). وما ذكره أحمد بن حنبل حق ، ولكن في شبهة ( لم تنتشر ) ولم تشتهر. فأما إذا انتشرت ، فالجواب عنها واجب ولا يمكن الجواب [ عنها ] إلا بعد الحكاية. نعم ، ينبغي أن لا يتكلف لهم شبهة لم [ يتكلفوها ] ؛ ولم أتكلف أنا ذلك ، بل كنت قد سمعت تلك الشبهة من واحد من أصحابي المختلفين إلي ، بعد أن كان قد التحق بـهم ؛ وانتحل مذهبـهم ، وحكى أنـهم يضحكون على تصانيف المصنفين في الرد عليهم ، بأنـهم لم يفهموا بعد حجتهم. ثم ذكر تلك الحجة وحكاها عنهم ، فلم أرض لنفسي أن يظن في الغفلة عن اصل حجتهم ، فلذلك أوردتـها ، ولا أن يظن بي أني - وإن سمعتها – لم أفهمها فلذلك قررتها. والمقصود ، أني قررت شبهتهم إلى أقصى الإمكان ، ثم أظهرت فسادها [ بغاية البرهان ]. والحاصل: أنه لا حاصل عند هؤلاء ، ولا طائل لكلامهم. ولولا سوء نصرة الصديق الجاهل ، لما انتهت تلك البدعة - مع ضعفها - إلى هذه الدرجة ؛ ولكن شدة التعصب ، دعت الذابين عن الحق إلى تطويل النـزاع معهم في مقدمات كلامهم ، وإلى مجاحدتـهم في كل ما نطقوا به ، فجاحدوهم في دعواهم: (( الحاجة إلى التعليم والمعلم. )) وفي دعواهم أنه: (( لا يصلح كل معلم ، بل لا بد من معلم معصوم. )) وظهرت حجتهم في إظهار الحاجة إلى التعليم والمعلم ، وضعف قول المنكرين في مقابلته ، فاغتر بذلك جماعة وظنوا أن ذلك من قوة مذهبهم وضعف مذهب المخالفين لهم ، ولم يفهموا أن ذلك لضعف ناصر الحق وجعله بطريقه ؛ بل الصواب الاعتراف بالحاجة إلى المعلم ، وأنه لا بد وأن يكون ( المعلم ) معصوماً ، ولكن معلمنا المعصوم ( هو ) محمد صلى الله عليه وسلّم فإذا قالوا: (( هو ميت )) ، فنقول: (( ومعلمكم غائب )) ، فإذا قالوا: (( معلمنا قد علم الدعاة وبثهم في البلاد ، وهو ينتظر مراجعتهم إن اختلفوا أو أشكل عليهم مشكل )). فنقول: (( ومعلمنا قد علم الدعاة وبثهم في البلاد وأكمل التعليم إذ قال الله تعالى: (( اليوم أكملتُ لكم دينكم [ وأتممتُ عليكمْ نعمتي ] )) (المائدة: 3) وبعد كمال التعليم لا يضر موت المعلم كما لا يضر غيبته. فبقي قولهم: (( كيف تحكمون فيما لم تسمعوه؟ أبالنص ولم تسمعوه ، أم بالإجتهاد والرأي وهو مظنة الخلاف؟ )) فنقول: (( نفعل ما فعله معاذ إذ بعثه رسول الله عليه [ الصلاة ] والسلام إلى اليمن: أن نحكم بالنص ، عند وجود النص وبالإجتهاد عند عدمه . ( بل ) كما يفعله دعاتهم إذا بعدوا عن الإمام إلى أقاصي البلاد ، إذ لا يمكنـه أن يحكم بالنص فإن النصوص المتناهية لا تستوعب الوقائع الغير المتناهية ، ولا يمكنـه الرجوع في كل واقعة إلى بلدة الإمام ، وأن يقطع المسافة ويرجع فيكون المستفتي قد مات ، وفات الانتفاع بالرجوع. فمن أشكلت عليه القبلة ليس له طريق إلا أن يصلي بالاجتهاد ، إذ لو سافر إلى بلدة الإمام لمعرفة القبلة ، فيفوت وقت الصلاة. فإذن جازت الصلاة إلى غير القبلة بناء على الظن. ويقال: (( إن المخطيء في الاجتهاد له أجرٌ واحدٌ وللمُصيبِ أجران )) . فكذلك في جميع المجتهدات ، وكذلك أمر صرف الزكاة إلى الفقير ، فربما يظنـه فقيراً باجتهاده وهو غني باطناً بإخفائه ماله ، فلا يكون مؤاخذاً بـه وإن أخطأ ، لأنه لم يؤاخذ إلا بموجب ظنه. فإن قال: (( ظن مخالفهِ كظنه )) فأقول: (( هو مأمور باتباع ظن نفسه ، كالمجتهد في القبلة يتبع ظنه وإن خالفه غيره. )) فإن قال: (( فالمقلد يتبع أبا حنيفة والشافعي ( رحمهما الله ) أم غيرهما. )) فأقول: (( فالمقلد في القبلة عند الاشتباه ، في معرفة الأفضل الأعلم بدلائل القبلة ، فيتبع ذلك الاجتهاد ؛ فكذلك في المذاهب. )) فردّ الخلق إلى الاجتهاد - ضرورة - الأنبياءُ والأئمة مع العلم بأنـهم ( قد ) يخطئون ، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (( أنا أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر )) . أي أنا أحكم بغالب الظن الحاصل من قول الشهود ، وربما أخطأوا فيه. ولا سبيل إلى الأمن من الخطأ للأنبياء في مثل هذه المجتهدات ، فيكف يطمع في ذلك؟ ولهم ها هنا سؤالان: أحدهما قولهم: (( هذا وإن صح في المجتهدات فلا يصح في قواعد العقائد ، إذ المخطئ فيه غير معذور ، فكيف السبيل إليه؟ )) فأقول: (( قواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب والسنة ؛ وما وراء ذلك من التفصيل ، والمتنازع فيه ، يعرف الحق فيه بالوزن بالقسطاس المستقيم. وهي الموازين التي ذكرها الله ( تعالى ) في كتابه ، وهي خمسة ذكرتـها في كتاب (( القسطاس المستقيم )). فإن قال: (( خصومك يخالفونك في ذلك الميزان. )) فأقول: (( لا يتصور أن يفهم ذلك الميزان ثم يخالف فيه [ إذ لا يخالف فيه ] أهل التعليم ، لأني استخرجته من القرآن وتعلمته منه ، ولا يخالف فيه أهل المنطق ، لأنه موافق لما شرطوه في المنطق ، وغير مخالف له ؛ ولا يخالف فيه المتكلم لأنه موافق لما يذكره في أدلة النظريات ، وبه يعرف الحق في الكلاميات. )) فإن قال: (( فإن كان في يدك مثل هذا الميزان فلمَ لا ترفع الخلاف بين الخلق؟ )) فأقول: (( لو أصغوا إلي لرفعت الخلاف بينهم ؛ وذكرت طريق رفع الخلاف في كتاب (( القسطاس المستقيم )) ، فتأمله لتعلم أنه حق وأنه يرفع الخلاف قطعاً لو أصغوا ولا يصغون [ إليه ] بأجمعهم! بل قد أصغى إلي طائفة ، فرفعت الخلاف بينهم. وإمامك يريد رفع الخلاف بينهم مع عدم إصغائهم ، فلمَ لم يرفع إلى الآن؟ ولمَ لم يرفع علي رضي الله عنـه ، وهو رأس الأئمة؟ أو يدعي أنه يقدر على حمل كافتهم على الإصغاء قهراً ، فلمَ لم يحملهم إلى الآن؟ ولأي يوم أجله؟ وهل حصل بين الخلق بسبب دعوته إلا زيادة خلاف وزيادة مخالف؟ نعم! كان يخشى من الخلاف نوع الضرر لا ينتهي إلى سفك الدماء ، وتخريب البلاد وأيتام الأولاد ، وقطع الطرق ، والإغارة على الأموال. وقد حدث في العالم من بركات رفعكم الخلاف [ من الخلاف ] ما لم يكن بمثله عهد. )) فإن قال: (( ادعيت أنك ترفع الخلاف بين الخلق ولكن المتحير بين المذاهب المتعارضة ، والاختلافات المتقابلة ، لم يلزمه الإصغاء إليك دون خصمك ، وأكثر الخصوم يخالفونك ، ولا فرق بينك وبينهم. )) وهذا هو سؤالهم الثاني فأقول: (( هذا أولاً ينقلب عليك ، فإنك إذا دعوت هذا المتحير إلى نفسك فيقول المتحير ، بما صرت أولى من مخالفيك ، وأكثر أهل العلم يخالفونك؟ فليت شعري! بماذا تجيب ، أتجيب بأن تقول: إمامي منصوص عليه؟ فمن يصدقك في دعوى النص ، وهو لم يسمع النص من الرسول؟ وإنما يسمع دعواك مع تطابق أهل العلم على اختراعك وتكذيبك. ثم هب أنه سلم لك النص ، فإن كان متحيراً في أصل النبوة ، فقال: هب أن إمامك يدلي بمعجزة عيسى عليه السلام فيقول: الدليل على صدقي أني أحيي أباك ، فأحياه ، فناطقني بأنه محق ، فبماذا أعلم صدقه؟ ولم يعلم كافة الخلق صدق عيسى عليه السلام بـهذه المعجزة ، بل عليه من الأسئلة المشكلة ما لا يدفع إلا بدقيق النظر العقلي ؛ والنظر العقلي لا يوثق به عندك ، ولا يعرف دلالة المعجزة على الصدق ما لم يعرف السحر والتمييز بينه وبين المعجزة ، وما لم يعرف أن الله لا يضل عباده. - وسؤال الإضلال وعسر [ تحرير ] الجواب عنه مشهور- فبماذا تدفع جميع ذلك؟ ولم يكن إمامك أولى بالمتابعة من مخالفه! )) فيرجع إلى الأدلة النظرية التي ينكرها ، وخصمه يدلي بمثل تلك الأدلة وأوضح منها. وهذا السؤال قد انقلب عليهم انقلاباً عظيما ، لو اجتمع أولهم وآخرهم على أن يجيبوا عنه جواباً لم يقدروا عليه. وإنما نشأ الفساد من جماعة من الضعفة ناظروهم ، فلم يشتغلوا بالقلب ، بل بالجواب. وذلك مما يطول فيه الكلام ، وما لا يسبق سريعاً إلى الإفهام ، فلا يصلح للإفحام. فإن قال قائل: (( فهذا هو القلب ، فهل عنه جواب؟ )) فأقول: (( نعم! جوابه أن المتحير لو قال: أنا متحير ، ولم يعين المسألة التي هو متحير فيها ، يقال له: أنت كمريض يقول: أنا مريض ولا يعين مرضه ، ويطلب علاجه. فيقال له: ليس في الوجود علاج للمرض المطلق ، بل لمرض معين: من صداع أو إسهال أو غيرهما. فكذلك المتحير ينبغي أن يعين ما هو متحير فيه ؛ فإن عين المسألة عرّفته الحق فيها بالوزن بالموازين الخمسة ، التي لا يفهمها أحد إلا ويعترف بأنه الميزان الحق ، الذي يوثق بكل ما يوزن به ، فيفهم الميزان ، ويفهم منه أيضاً صحة الوزن ، كما يفهم متعلم علم الحساب نفس الحساب ، وكون المحاسب المعلم عالماً بالحساب وصادقاً فيه )). وقد أوضحت ذلك في كتاب (( القسطاس المستقيم )) في مقدار عشرين ورقة ؛ فليتأمل. وليس المقصود الآن بيان فساد مذهبهم ، فقد ذكرت ذلك في كتاب (( المستظهري )) أولاً ؛ وفي كتاب (( حجة الحق )) ثانياً ، وهو جواب كلام لهم عُرض علي ببغداد ؛ وفي كتاب (( مفصل الخلاف )) الذي هو اثنا عشر فصلاً ثالثاً ؛ وهو جواب كلام عُرض علي بـهمدان ؛ وفي كتاب (( الدرج )) المرقوم (( بالجداول )) رابعاً ، وهو من ركيك كلامهم الذي عُرض علي بطوس ؛ وفي كتاب (( القسطاس المستقيم )) خامساً ، وهو كتاب مستقل بنفسه مقصوده بيان ميزان العلوم وإظهار الاستغناء عن الامام [ المعصوم ] لمن أحاط به. بل المقصود أن هؤلاء ليس معهم شيء من الشفاء المنجي من ظلمات الآراء ، بل هم ، مع عجزهم عن إقامة البرهان على تعيين الإمام ، طال ما جاريناهم فصدقناهم في الحاجة إلى التعليم وإلى المعلم المعصوم وأنه الذي عينوه ، ثم سألناهم عن العلم الذي تعلموه من هذا المعصوم وعرضنا عليهم إشكالات فلم يفهموها ، فضلاً عن القيام بحلّها! فلما عجزوا أحالوا [ على ] الإمام الغائب ، وقالوا: (( ( أنه ) لا بد من السفر إليه. )) والعجب أنـهم ضيعوا عمرهم في طلب المعلم وفي التبجح بالظفر به ، ولم يتعلموا منه شيئاً أصلاً ، كالمتضمّخ بالنجاسة ، يتعب في طلب الماء حتى إذا وجده لم يستعمله ، وبقي متضمخاً بالخبائث. ومنهم من ادعى شيئاً من علمهم ، فكان حاصل ما ذكره شيئاً من ركيك فلسفة فيثاغورس: وهو رجل من قدماء الأوائل ، ومذهبـه أرك مذاهب الفلسفة ، وقد رد عليه أرسطاطاليس ، بل استركَّ كلامه واسترذله ، وهو المحكي في كتاب (( إخوان الصفا )) ، وهو على التحقيق حشو الفلسفة. فالعجب ممن يتعب طول العمر في تحصيل العلم ثم يقنع بمثل ذلك العلم الركيك المستغث ، ويظن بأنه ظفر بأقصى مقاصد العلوم! فهؤلاء أيضاً جربناهم وسبرنا ظاهرهم وباطنهم ؛ فرجع حاصلهم إلى استدراج العوام ، وضعفاء العقول ببيان الحاجة إلى المعلم ، ومجادلتهم في إنكارهم الحاجة إلى التعليم بكلام قوي مفحم ، حتى إذا ساعدهم على الحاجة إلى المعلم مساعد ، وقال: (( هات علمه وأفدنا من تعليمه! )) وقف وقال: (( الآن إذا سلمت لي هذا فاطلبه ، فإنما غرضَي هذا القدر فقط. )) إذ علم أنه لو زاد على ذلك لافتضح ولعجز عن حل أدنى الإشكالات ، بل عجز عن فهمه ، فضلاً عن جوابـه. فهذه حقيقة حالهم فأخبرهم تَقْلُهم فلما خبرناهم نفضنا اليد عنهم ( أيضاً ).
* *
طرُق الصُّوفِيَّة
ثم إني ، لما فرغت من هذه العلوم ، أقبلت بـهمتي على طريق الصوفية وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل ؛ وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس. والتنـزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة ، حتى يتوصل ( بـها ) إلى تخلية القلب عن غير الله ( تعالى ) وتحليته بذكر الله. وكان العلم أيسر عليّ من العمل. فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل: (( قوت القلوب )) لأبي طالب المكي ( رحمه الله ) وكتب (( الحارث المحاسبي )) ، والمتفرقات المأثورة عن ((الجنيد)) و (( الشبلي )) و (( أبي يزيد البسطامي )) [ قدس الله أرواحهم ] ، وغيرهم من المشايخ ؛ حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية ، وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع. فظهر لي أن أخص خواصهم ، ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات. وكم من الفرق بين أن تعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابـهما وشروطهما ، وبين أن تكون صحيحاً وشبعان؟ وبين أن تعرف حد السكر ، وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر ، وبين أن تكون سكران! بل السكران لا يعرف حدّ السكر وعِلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء! والصَّاحي يعرف حدّ السُكر واركأنه ومَا معه من السكر شيء. والطبيب في حالة المرض يعرف حدّ الصحة وأسبابـها وأدويتها ، وهو فاقد الصحة. فكذلك فرقٌ بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه ، وبين أن تكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا! فعلمت يقيناً أنـهم أرباب الأحوال ، لا أصحاب الأقوال. وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته ، ولم يبقَ إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم ، بل بالذوق والسلوك. وكان ( قد ) حصل معي - من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها ، في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية- إيمانٌ يقينيٌ بالله تعالى ، وبالنبُوّة وباليوم الآخر. فهذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت قد رسخت في نفسي ، لا بدليل معين محرر بل بأسبابٍ وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلُها. وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع ( لي ) في سعادة الآخرة إلا بالتقوى ، وكف النفس عن الهوى ، وأن رأس ذلك كله ، قطعُ علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والإقبال بكُنه الهمة على الله تعالى. وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال ، والهرب من الشواغل والعلائق. ثم لاحظت أحوالي ؛ فإذا أنا منغمس في العلائق ، وقد أحدقت بي من الجوانب ؛ ولاحظت أعمالي – وأحسنها التدريس والتعليم - فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة. ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى ، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت ؛ فتيقنت أني على شفا جُرُف هار ، وأني قد أشفيت على النار ، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال. فلم أزل أتفكر فيه مدة ، وأنا بعدُ على مقام الاختيار ، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوماً ، وأحل العزم يوماً ، وأقدم فيه رجلاً وأؤخر عنه أخرى. لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة ، إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فيفترها عشية. فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام ، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل! الرحيل! فلم يبق من العمر إلا قليل ، وبين يديك السفر الطويل ، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل! فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن [ هذه العلائق ] فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية ، وينجزم العزم على الهرب والفرار. ثم يعود الشيطان ويقول: (( هذه حال عارضة ، إياك أن تطاوعها ، فأنـها سريعة الزوال ؛ فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض ، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص ، والأمر المسلم الصافي عن منازعة الخصوم ، ربما التفتت إليه نفسك ، ولا يتيسر لك المعاودة. )) فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ، ودواعي الآخرة ، قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مائة. وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار ، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس ، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفة [ إلي ] ، فكان لا ينطق لساني بكلمة [ واحدة ] ولا أستطيعها البتة ، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب ، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب: فكان لا ينساغ لي ثريد ، ولا تنهضم ( لي ) لقمة ؛ وتعدى إلى ضعف القوى ، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا: (( هذا أمر نـزل بالقلب ، ومنه سرى إلى المزاج ، فلا سبيل إليه بالعلاج ، إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم )). ثم لما أحسست بعجزي ، وسقط بالكلية اختياري ، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له ، فأجابني الذي (( يجيب المضطر إذا دعاه )) ، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال ( والأهل والولد والأصحاب ) ، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أدبّر في نفسي سفر الشام حذراً أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي على المقام في الشام ؛ فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبداً. واستهدفت لأئمة أهل العراق كافة ، إذ لم يكن فيهم من يجوز أن يكون للإعراض عما كنت فيه سبب دينيّ ، إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين ، وكان ذلك مبلغهم من العلم. ثم ارتبك الناس في الاستنباطات ، وظن من بعُد عن العراق ، أن ذلك كان لاستشعار من جهة الولاة ؛ ( وأما من قرب من الولاة ) : كان يشاهد إلحاحهم في التعلق بي والانكباب عليَّ ، وإعراضي عنهم ، وعن الالتفات إلى قولهم ، فيقولون: (( هذا أمر سماوي ، وليس له سبب إلا عين أصابت أهل الإسلام وزمرة أهل العلم )). ففارقت بغداد ، وفرقت ما كان معي من المال ، ولم أدخر إلا قدر الكفاف ، وقوت الأطفال ، ترخصاً بأن مال العراق مرصد للمصالح ، ولكونه وقفاً على المسلمين. فلم أر في العالم مالاً يأخذه العالم لعياله أصلح منه. ثم دخلت الشام ، وأقمت به قريباً من سنتين لا شغل لي إلا العزلة والخلوة ؛ والرياضة والمجاهدة ، اشتغالاً بتزكية النفس ، وتـهذيب الأخلاق ، وتصفية القلب لذكر الله ( تعالى ) ، كما كنت حصلته من كتب الصوفية. فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق ، أصعد منارة المسجد طول النهار ، وأغلق بابـها على نفسي. ثم رحلت منها إلى بيت المقدس ، أدخل كل يوم الصخرة ، وأغلق بابـها على نفسي. ثم تحركت فيَّ داعية فريضة الحج ، والاستمداد من بركات مكة والمدينة. وزيارة رسول الله ﷺ بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله وسلامه عليه ؛ فسرت إلى الحجاز. ثم جذبتني الهمم ، ودعوات الأطفال إلى الوطن ، فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه. فآثرت العزلة [ به ] أيضاً حرصاً على الخلوة ، وتصفية القلب للذكر. وكانت حوادث الزمان ، ومهمات العيال ، وضرورات المعاش ، تغير فيَّ وجه المراد ، وتشوش صفوة الخلوة. وكان لا يصفو [ لي ] الحال إلا في أقوات متفرقة. لكني مع ذلك لا أقطع طمعي منها ، فتدفعني عنها العوائق ، وأعود إليها. ودمت على ذلك مقدار عشر سنين ؛ وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها ، والقدر الذي أذكره لينتفع به: إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله ( تعالى ) خاصة ، وأن سيرتهم أحسن السير ، وطريقهم أصوب الطرق ، وأخلاقهم أزكى الأخلاق. بل لو جُمع عقل العقلاء ، وحكمة الحكماء ، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم ، ويبدلوه بما هو خير منه ، لم يجدوا إليه سبيلاً. فإن جميع حركاتـهم وسكناتـهم ، في ظاهرهم وباطنهم ، مقتبسة من ( نور ) مشكاة النبوة ؛ وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به. وبالجملة ، فماذا يقول القائلون في طريقة ، طهارتـها - وهي أول شروطها - تطهير القلب بالكلية عما سوى الله ( تعالى ) ، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة ، استغراق القلب بالكلية بذكر الله ، وآخرها الفناء بالكلية في الله؟ وهذا آخرها بالإضافة إلى ما يكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من أوائلها. وهي على التحقيق أول الطريقة ، وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه. ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات ( والمشاهدات ) ، حتى أنـهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة ، وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد. ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال ، إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق ، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه. وعلى الجملة. ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول ، وطائفة الاتحاد ، وطائفة الوصول ، وكل ذلك خطأ. وقد بينا وجه الخطأ فيه في كتاب (( المقصد الأسنى )) ؛ بل الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول : وكان ما كان مما لستُ أذكره فظنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبرِ! وبالجملة ، فمن لم يرزق منه شيئاً بالذوق ، فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا الاسم ، وكرامات الأولياء ، [ هي ] على التحقيق ، بدايات الأنبياء ، وكان ذلك أول حال رسول الله ﷺ ، حين أقبل إلى جبل (( حراء )) ، حيث كان يخلو فيه بربه ويتعبد ، حتى قالت العرب : (( إن محمداً عشق ربه!)). وهذه حالة ، يتحققها بالذوق من يسلك سبيلها. فمن لم يرزق الذوق ، فيتيقنها بالتجربة والتسامع ، إن أكثر معهم الصحبة ، حتى يفهم ذلك بقرائن الأحوال يقيناً. ومن جالسهم ، استفاد منهم هذا الإيمان. فهم القوم لا يشقى جليسهم. ومن لم يرزق صحبتهم ، فليعلم إمكان ذلك يقيناً بشواهد البرهان ، على ما ذكرناه في كتاب (( عجائب القلب )) من كتب (( إحياء علوم الدين )). والتحقيق بالبرهان علم ، وملابسة عين تلك الحالة ذوق ، والقبول من التسامع والتجربة بحسن الظن إيمان. فهذه ثلاث درجات : (( يرفعِ الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجاتٍ )) (المجادلة: 58: 11) ووراء هؤلاء قوم جهال ، هم المنكرون لأصل ذلك ، المتعجبون من هذا الكلام ، يستمعون ويسخرون ، ويقولون : العجب ! أنـهم كيف يهذون ! وفهيم قال الله تعالى : (( ومنـهم من يستمع إليكَ حتى إذا خرجوا من عِندك قالوا للذين أُوتوا العلم ماذا قال آنفاً أولئك الذين طبع الله على قلوبـهم واتبعوا أهواءهم )) ( فأصمهُم وأعمى أبصارهم ) (محمد : 47: 16) ومما بان لي بالضرورة من ممارسة طريقتهم ، (( حقيقة النبوة وخاصيتها )). ولا بد من التنبيه على أصلها لشدة مسيس الحاجة إليها.
حَقيقَة النُبُوَّة: واضطِرار كَافةِ الخَلق إليهَا
اعلم: أن جوهر الإنسان في أصل الفطرة ، خلق خالياً ساذجاً لا خبر معه من عوالم الله ( تعالى )! والعوالم كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى كما قال: (( وما يعلم جنودُ ربك إلا هو )) (المدثر : 74: 31) وإنما خبره من العوالم بواسطة الإدراك ، وكل إدراك من الإدراكات خلق ليطلع الإنسان به على عالم من الموجودات ، ونعني بالعوالم ، أجناس الموجودات. فأول ما يخلق في الإنسان حاسة اللمس ، فيدرك بـها أجناساً من الموجودات: كالحرارة ، والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، واللين والخشونة ، وغيرها. واللمس قاصر عن الألوان والأصوات قطعاً ، بل هي كالمعدوم في حق اللمس. ثم تخلق له [ حاسة ] البصر ، فيدرك بـها الألوان والأشكال ، وهو أوسع عوالم المحسوسات. ثم ينفخ فيه السمع ، فيسمع الأصوات والنغمات. ثم يخلق له الذوق. وكذلك إلى أن يجاوز عالم المحسوسات ، فيخلق فيه التمييز ، وهو قريب من سبع سنين ، وهو طور آخر من أطوار وجوده : فيدرك فيه أموراً زائدة على ( عالم ) المحسوسات ، لا يوجد منها شيء في عالم الحس. ثم يترقى إلى طور آخر ، فيخلق له العقل ، فيدرك الواجبات والجائزات والمستحيلات ، وأموراً لا توجد في الأطوار التي قبله. ووراء العقل طور آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بـها الغيب وما سيكون في المستقبل ، وأموراً أُخر ، العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عن إدراك المعقولات وكعزل قوة الحس عن مدركات التمييز. وكما أن المميز لو عرضت عليه مدركات العقل لأباها واستبعدها ، فكذلك بعض العقلاء أبوا مدركات النبوة واستبعدوها ، وذلك عين الجهل : إذ لا مستند لهم إلا أنه طور لم يبلغه ولم يوجد في حقه ، فيظن أنه غير موجود في نفسه. والأكمه ، لو لم يعلم بالتواتر والتسامع الألوان والأشكال وحكي له ذلك ابتداءً ، لم يفهمها ولم يقرّ بـها. وقد قرب الله تعالى على خلقه بأن أعطاهم نموذجاً من خاصية النبوة ، وهو النوم : إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب ، إما صريحاً وإما في كسوة مثال يكشف عنـه التعبير. وهذا لو لم يجربه الإنسان من نفسه - وقيل له: (( إن من الناس من يسقط مغشياً عليه كالميت ، ويزول ( عنه ) إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب. )) – لأنكره ، وأقام البرهان على استحالته ، وقال: (( القوى الحساسة أسباب الإدراك ، فمن لا يدرك الأشياء مع وجودها وحضورها ، فبأن لا يدرك مع ركودها أولى وأحق. )) وهذا نوع قياس يكذبه الوجود والمشاهدة. فكما أن العقل طور من أطوار الآدمي ، يحصل فيه عين يبصر بـها أنواعاً من المعقولات ، والحواس معزولة عنها ، فالنبوة أيضاً عبارة عن طور يحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها الغيب ، وأمور لا يدركها العقل. والشك في النبوة ، إما أن يقع: في إمكأنـها ، أو في وجودها ووقوعها ، أو في حصولها لشخص معين. ودليل إمكأنـها وجودها. ودليل وجودها وجود معارف في العالم لا يتصور أن تنال بالعقل ، كعلم الطب والنجوم ؛ فإن من بحث عنها علم بالضرورة أنها لا تدرك إلا بإلهام إلهي وتوفيق من جهة الله ( تعالى ) ، ولا سبيل إليها بالتجربة. فمن الأحكام النجومية ما لا يقع إلا في كل ألف سنة مرة ، فكيف ينال ذلك بالتجربة ؟ وكذلك خواص الأدوية. فتبين بـهذا البرهان أن في الإمكان وجود طريق لإدراك هذه الأمور التي لا يدركها العقل - وهو المراد بالنبوة - لا أن النبوة عبارة عنها فقط ، بل إدراك هذا الجنس الخارج عن مدركات العقل إحدى خواص النبوة ، ولها خواص كثيرة سواها. وما ذكرنا ، فقطرة من بحرها ؛ إنما ذكرناها لأن معك أُنموذجاً منها ، وهو مدركاتك في النوم ؛ ومعك علوم من جنسها في الطب والنجوم ، وهي معجزات الأنبياء ( عليهم الصلاة والسلام ) ، ولا سبيل إليها للعقلاء ببضاعة العقل أصلاً. وأما ما عدا هذا من خواص النبوة ، فإنما يدرك بالذوق ، من سلوك طريق التصوف ؛ لأن هذا إنما فهمته بأنموذج رزقته وهو النوم ، ولولاه لما صدقت به. فإن كان للنبي خاصة ليس لك منها أنموذج ، ولا تفهمها أصلاً ، فكيف تصدق بـها ؟ وإنما التصديق بعد الفهم: وذلك الأنموذج يحصل في أوائل طريق التصوف فيحصل به نوع من الذوق بالقدر الحاصل ونوع من التصديق بما لم يحصل بالقياس ( إليه ). فهذه الخاصية الواحدة تكفيك للإيمان بأصل النبوة. فإن وقع لك الشك في شخص معين ، أنه نبي أم لا ، فلا يحصل اليقين إلا بمعرفة أحواله ، إما بالمشاهدة ، أو بالتواتر والتسامع ؛ فإنك إذا عرفت الطب والفقه ، يمكنك أن تعرف الفقهاء والأطباء بمشاهدة أحوالهم ، وسماع أقوالهم ، وإن لم تشاهدهم ؛ ولا تعجز أيضاً عن معرفة كون الشافعي ( رحمه الله ) فقيهاً ، وكون جالينوس طبيباً ، معرفة بالحقيقة لا بالتقليد عن الغير ، [ بل ] بأن تتعلم شيئاً من الفقه والطب وتطالع كتبهما وتصانيفهما ، فيحصل لك علم ضروري بحالهما. فكذلك إذا فهمت معنى النبوة فأكثرت النظر في القرآن والأخبار ، يحصل لك العلم الضروري بكونه ﷺ على أعلى درجات النبوة ، وأعضد ذلك بتجربة ما قاله في العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب ، وكيف صدق ﷺ في قوله: (( من عمل بما علم ورثهُ الله علم ما لم يعلم ))
وكيف صدق في قوله:
(( من أعان ظالماً سلطهُ الله عليهِ ))
وكيف صدق في قوله:
(( من اصبح وهُمُومُهُ همٌّ واحدٌ كفاه الله ( تعالى ) هُمُومَ الدنيا والآخرةِ )) . فإذا جربت ذلك في ألف وألفين وآلاف ، حصل لك علم ضروري لا تتمارى فيه. فمن هذا الطريق اطلب اليقين بالنبوة ، لا من قلب العصا ثعباناً ، وشق القمر ، فإن ذلك إذا نظرت إليه وحده ، ولم تنضم إليه القرائن الكثيرة الخارجة عن الحصر ، وربما ظننت أنه سحر وتخييل ، وأنه من الله تعالى إضلال فأنه (( يُضِلُّ من يَشَاءُ ويَهدي من يشاءُ )) (فاطر:8). وترد عليك أسئلة المعجزات ، فإذا كان مستند إيمانك إلى كلام منظوم في وجه دلالة المعجزة ، فينجزم إيمانك بكلام مرتب في وجه الإشكال والشبهة عليها ، فليكن مثل هذه الخوارق إحدى الدلائل والقرائن في جملة نظرك ، حتى يحصل لك علم ضروري لا يمكنك ذكر مستنده على التعيين كالذي يخبره جماعة بخبر متواتر لا يمكنه أن يذكر أن اليقين مستفاد من قول واحد معين ، بل من حيث لا يدري ، ولا يخرج عن جملة ذلك ولا بتعيين الآحاد. فهذا هو الإيمان القوي العلمي. وأما الذوق فهو كالمشاهدة والأخذ باليد ، ولا يوجد إلا في طريق الصوفية. فهذا القدر من حقيقة النبوة ، كاف في الغرض الذي أقصده الآن ، وسأذكر وجه الحاجة إليه.
سَبَب نشر العِلْم بعَدْ الإعرَاضِ عَنـه
ثم إني ، لما واظبت على العزلة والخلوة قريباً من عشر سنين ، بان لي في أثناء ذلك على الضرورة من أسباب لا أحصيها ، مرة بالذوق ، ومرة بالعلم البرهاني ، ومرة بالقبول الإيماني : أن الإنسان خلق من بدن وقلب - وأعني بالقلب حقيقة روحه التي هي محل معرفة الله ، دون اللحم والدم الذي يشارك فيه الميت والبهيمة - ، وأن البدن له صحة بـها سعادته ومرض فيه هلاكه ؛ وأن القلب كذلك له صحة وسلامة ، ولا ينجو (( إلا من أتى الله بقلب سليم )) (الشعراء:89) ؛ وله مرض فيه هلاكه الأبدي الأخروي ، كما قال تعالى : (( في قلوبـهم مرضٌ )) (البقرة:10) وأن الجهل بالله سم مهلك ؛ وأن معصية الله ، بمتابعة الهوى ، داؤه الممرض ، وأن معرفة الله تعالى ترياقه المحيي ، وطاعته بمخالفة الهوى ، دواؤه الشافي ؛ وأنه لا سبيل إلى معالجتة بازالة مرضه وكسب صحته ، الا بأدوية ؛ كما لا سبيل إلى معالجة البدن إلا بذلك. وكما أن أدوية البدن تؤثر في كسب الصحة بخاصية فيها ، لا يدركها العقلاء ببضاعة العقل ، بل يجب فيها تقليد الأطباء الذين أخذوها من الأنبياء ، الذين اطلعوا بخاصية النبوة على خواص الأشياء ، فكذلك بان لي ، على الضرورة ، بأن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدرة من جهة الأنبياء ، لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء ، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوة ، لا ببضاعة العقل. وكما أن الأدوية تركب من ( أخلاط مختلفة ) النوع والمقدار وبعضها ضعف البعض في الوزن والمقدار ، فلا يخلو اختلاف مقاديرها عن سر هو من قبيل الخواص ، فكذلك العبادات التي هي أدوية داء القلوب ، مركبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار ، حتى أن السجود ضعف الركوع ، وصلاة الصبح نصف صلاة العصر في المقدار ؛ ولا يخلو عن سر من الاسرار ، هو من قبيل الخواص التي لا يطلع عليها الا بنور النبوة. ولقد تحامق وتجاهل جداً من أراد أن يستنبط ، بطريق العقل ، لها حكمة ، أو ظن أنـها ذكرت على الاتفاق ، لا عن سر إلهي فيها ، يقتضيها بطريق الخاصية. وكما أن في الأدوية أصولاً هي أركأنـها ، وزوائد هي متمماتها ، لكل واحد منها خصوص تأثير في أعمال أصولها ، كذلك النوافل والسنن متممات لتكميل آثار أركان العبادات. وعلى الجملة : فالأنبياء عليهم السلام أطباء أمراض القلوب ، وإنما فائدة العقل وتصرفه أن عرّفنا ذلك وشهد للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعجز عن درك ما يدرك بعين النبوة ، وأخذ بأيدينا وسلمنا ( إليها ) تسليم العميان إلى القائدين ، وتسليم المرضى المتحيرين إلى الأطباء المشفقين. فإلى ههنا مجرى العقل ومخطاه وهو معزول عما بعد ذلك ، إلا عن تفهم ما يلقيه الطبيب إليه. فهذه أمور عرفناها بالضرورة الجارية مجرى المشاهدة ، في مدة الخلوة والعزلة. ثم رأينا فتور الاعتقادات في أصل النبوة ، ثم في حقيقة النبوة ، ثم في العمل بما شرحته النبوة ، وتحققنا شيوع ذلك بين الخلق ؛ فنظرت إلى أسباب فتور الخلق ، وضعف إيمأنـهم ، فإذا هي أربعة : 1 - سبب من الخائضين في علم الفلسفة ؛ 2 - وسبب من الخائضين في طريق التصوف ؛ 3 - وسبب من المنتسبين إلى دعوى التعليم ؛ 4- وسبب من معاملة الموسومين بالعلم فيما بين الناس. فإني تتبعت مدةً آحاد الخلق ، أسألُ من أن يقصر منهم في متابعة الشرع ( واسأله ) عن شبهته وأبحث عن عقيدته وسره وقلت له: (( ما لك تقصر فيها فإن كنت تؤمن بالآخرة ولست تستعد لها وتبيعها بالدنيا ، فهذه حماقة! فإنك لا تبيع الاثنين بواحد ، فكيف تبيع ما لا نـهاية له بأيام معدودة؟ وإن كنت لا تؤمن ، فأنت كافر! فدبر نفسك في طلب الإيمان ، وانظر ما سبب كفرك الخفي الذي هو مذهبك باطناً ، وهو سبب جرأتك ظاهراً ، وإن كنت لا تصرح به تجملاً بالإيمان وتشرفاً بذكر الشرع ! )). فقائل يقول: (( إن هذا أمر لو وجبت المحافظة عليه ، لكان العلماء أجدر بذلك ؛ وفلان من المشاهير بين الفضلاء لا يصلي ، وفلان يشرب الخمر ، وفلان يأكل أموال الأوقاف وأموال اليتامى ، وفلان يأكل إدرار السلطان ولا يحترز عن الحرام ، وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهادة ! وهلم جراً إلى أمثاله. )) وقائل ثان: يدعي ( علم ) التصوف ، ويزعم أنه قد بلغ مبلغاً ترقّى عن الحاجة إلى العبادة!. وقائل ثالث: يتعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل الإباحة! وهؤلاء هم الذين ضلوا عن التصوف. وقائل رابع لقي أهل التعليم فيقول: (( الحق مشكل ، والطريق إليه متعسر ، والاختلاف فيه كثير ، وليس بعض المذاهب أولى من بعض ، وأدلة العقول متعارضة ، فلا ثقة برأي أهل الرأي ، والداعي إلى التعليم متحكم لا حجة له ، فكيف أدع اليقين بالشك ؟ )). وقائل خامس يقول: (( لست أفعل هذا تقليداً ، ولكني قرأت علم الفلسفة وأدركت حقيقة النبوة ، وإن حاصلها يرجع إلى الحكمة والمصلحة ، وأن المقصود من تعبداتـها: ضبط عوام الخلق وتقييدهم عن التقاتل والتنازع والاسترسال في الشهوات ، فما أنا من العوام الجهال حتى أدخل في حجر التكليف ، وإنما أنا من الحكماء أتبع الحكمة وأنا بصير بـها ، مستغن فيها عن التقليد ! )). هذا منتهى إيمان من قرأ ( مذهب ) فلسفة الإلهيين منهم ؛ وتعلم ذلك من كتب ابن سينا وأبي نصر الفارابي. وهؤلاء هم المتجملون بالإسلام. وربما ترى الواحد منهم يقرأ القرآن ، ويحضر الجماعات والصلوات ، ويعظم الشريعة بلسأنه ، ولكنه مع ذلك لا يترك شرب الخمر ، وأنواعاً من الفسق والفجور! وإذا قيل له: ((إن كانت النبوة غير صحيحة ، فلم تصلي ؟ )) فربما يقول: (( لرياضة الجسد ، ولعادة أهل البلد ، وحفظ المال والولد! )). وربما قال: ((الشريعة صحيحة ، والنبوة حق! )) فيقال: (( فلمَ تشرب الخمر؟ )) فيقول: (( إنما نـهي عن الخمر لأنـها تورث العداوة والبغضاء ، وأنا بحكمتي محترز عن ذلك ، وإني أقصد به تشحيذ خاطري.)) حتى أن ابن سينا ذكر في وصية له كتب فيها: أنه عاهد الله تعالى على كذا وكذا ، وأن يعظم الأوضاع الشرعية ، ولا يقصر في العبادات الدينية ، ولا يشرب تلهياً بل تداوياً وتشافياً ؛ فكان منتهى حالته في صفاء الإيمان ، والتزام العبادات ، أن استثنى شرب الخمر لغرض التشافي. فهذا إيمان من يدعي الإيمان منهم. وقد انخدع بـهم جماعة ، وزادهم انخداعاً ضعف اعتراض المعترضين عليهم ، إذ اعترضوا بمجاهدة علم الهندسة والمنطق ، وغير ذلك مما هو ضروري لهم ، على ما بينا علته من قبل. فلما رأيت أصناف الخلق قد ضعف إيـمأنـهم إلى هذا الحد بـهذه الأسباب ، ورأيت نفسي ملبة بكشف هذه الشبهة ، حتى كان إفضاح هؤلاء أيسر عندي من شربة ماء ، لكثرة خوضي في علومهم [ وطرقهم ] - أعني [ طرق ] الصوفية والفلاسفة والتعليمية والمتوسمين من العلماء- ، انقدح في نفسي أن ذلك متعين في هذا الوقت ، محتوم. فماذا تغنيك الخلوة والعزلة ، وقد عم الداء ، ومرض الأطباء ، وأشرف الخلق على الهلاك؟ ثم قلت في نفسي: (( متى تشتغل أنت بكشف هذه الغمة ومصادمة هذه الظلمة ، والزمان زمان الفترة ، والدور دور الباطل ، ولو اشتغلت بدعوة الخلق ، عن طرقهم إلى الحق ، لعاداك أهل الزمان بأجمعهم ، وأنـَّى تقاومهم فكيف تعايشهم ، ولا يتم ذلك إلا بزمان مساعد ، وسلطان متدين قاهر؟ )) فترخصت بيني وبين الله تعالى بالاستمرار على العزلة تعللاً بالعجز عن إظهار الحق بالحجة. فقدر الله تعالى أن حرك داعية سلطان الوقت من نفسه ، لا بتحريك من خارج. فأمر أمر إلزام بالنهوض إلى نيسابور ، لتدارك هذه الفترة. وبلغ الإلزام حداً كان ينتهي ، لو أصررت على الخلاف ، إلى حد الوحشة. فخطر لي أن سبب الرخصة قد ضعف ، فلا ينبغي أن يكون باعثك على ملازمة العزلة الكسل والاستراحة ، وطلب عز النفس وصونها عن أذى الخلق ، ولم ترخص لنفسك عُسْرَ معاناة الخلق ، والله سبحأنه وتعالى يقول: (( بسم الله الرحمن الرحيم: الم. أحَسِبَ الناسُ أن يُتركوا أن يقولوا آمناً وهم لا يُفَتَنونَ ولقد فتنّا الذينَ من قبلهم )) الآية (العنكبوت: 1-3 ) ويقول عز وجل لرسوله وهو أعز خلقه: (( ولقدَ كُذّبَتْ رُسلٌ من قبلكَ فصَبروا على ما كُذّبوا وأُوذوا ، حتى أتاهم نصرُنا ؛ ولا مبَدّلَ لكلماتِ الله ، ولقد جاءك من نبأ المرسلين )) ( الأنعام:34 ) ويقول عز وجل: (( بسم الله الرحمن الرحيم : يس والقرآن الحكيم... )) إلى قوله (( إنما تنذرُ من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيبِ )). ( يس:1-11 ) فشاورت في ذلك جماعة من أرباب القلوب والمشاهدات ، فاتفقوا على الإشارة بترك العزلة ، والخروج من الزاوية ؛ وانضاف إلى ذلك منامات من الصالحين كثيرة متواترة ، تشهد بأن هذه الحركة مبدأ خير ورشد قدّرها الله سبحأنه على رأس هذه المائة ؛ فاستحكم الرجاء ، وغلب حسن الظنّ بسبب هذه الشهادات وقد وعد الله سبحأنه بإحياء دينه على رأس كل مائة. ويسّر الله تعالى الحركة إلى نيسابور ، للقيام بـهذا المهم في ذي القعدة ، سن تسع وتسعين وأربع مائة. وكان الخروج من بغداد في ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وأربع مائة. وبلغت مدة العزلة إحدى عشر سنة. وهذه حركة قدّرها الله تعالى ، ( وهي ) من عجائب تقديراته التي لم يكن لها انقداح في القلب في هذه العزلة ، كما لم يكن الخروج من بغداد ، والنـزوع عن تلك الأحوال مما خطر إمكأنه أصلاً بالبال ؛ والله تعالى مقلب القلوب والأحوال و (( قلب المؤمن بين إصبعين من أصابعِ الرحمن )) . وأنا أعلم أني ، وإن رجعت إلى نشر العلم ، فما رجعت! فإن الرجوع عَودٌ إلى ما كان ، وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يكتسب الجاه ، وأدعو إليه بقولي وعملي ، وكان ذلك قصدي ونيتي. وأما الآن فأدعو إلى العلم الذي به يُترك الجاه ، ويعرف بـه سقوط رتبة الجاه. هذا هو الآن نيتي وقصدي وأمنيتي ؛ يعلم الله ذلك مني ؛ وأنا أبغي أن أصلح نفسي وغيري ، ولست أدري أأصِل مرادي أم أُخترم دون غرضي؟ ولكني اؤمن إيمان يقين ومشاهدة أنه لا حول ولا قوة إلا بالله ( العلي العظيم ) ؛ وأني لم أتحرك ، لكنه حركني ؛ وإني لم أعمل ، لكنه استعملني ؛ فأسأله أن يصلحني أولاً ، ثم يُصلح بي ، ويهديني ، ثم يهدي بي ؛ وأن يريني الحق حقاً ، ويرزقني اتباعه ، ويريني الباطل باطلاً ، ويرزقني اجتنابه.
* *
ونعود الآن إلى ما ذكرناه من أسباب ضعف الإيمان بذكر طريق إرشادهم وإنقاذهم من مهالكهم: أما الذين ادعوا الحيرة بما سمعوه من أهل التعليم ، فعلاجهم ما ذكرناه في كتاب (( القسطاس المستقيم )) ولا نطول بذكره ( في ) هذه الرسالة. وأما ما توهمه أهل الإباحة ، فقد حصرنا شبههم في سبعة أنواع وكشفناها في كتاب (( كيمياء السعادة )). وأما من فسد إيمأنه بطريق الفلسفة ، حتى أنكر أصل النبوة ، فقد ذكرنا حقيقة النبوة ووجودها بالضرورة ، بدليل وجود ( علم ) خواص الأدوية والنجوم وغيرهما. وإنما قدمنا هذه المقدمة لأجل ذلك. وأنـما أوردنا الدليل من خواص الطب والنجوم ، لأنه من نفس علمهم. ونحن نبين لكل عالم بفن من العلوم ، كالنجوم والطب والطبيعة والسحر والطلسمات ، مثلاً من نفس علمه ، برهان النبوة. وأما من أثبت النبوة بلسأنه ، وسوى أوضاع الشرع على الحكمة ، فهو على التحقيق كافر بالنبوة ، وإنما هو مؤمن بحكم له طالع مخصوص ، يقتضي طالعه أن يكون متبوعاً ؛ وليس هذا من النبوة في شيء. بل الإيمان بالنبوة: أن يقر بإثبات طور وراء العقل ، تنفتح فيه عين يدرك بـها مدركات خاصة ، والعقل معزول عنها ، كعزل السمع عن إدراك الألوان ، والبصر عن إدراك الأصوات ، وجميع الحواس عن إدراك المعقولات. فإن لم يجوّز هذا ، فقد أقمنا البرهان على إمكأنه ، بل على وجوده. وإن جوز هذا ، فقد أثبت ، أن ههنا أموراً تسمى خواص ، لا يدور تصرف العقل حواليها أصلاً ، بل يكاد العقل يكذبـها ويقضي باستحالتها. فإن وزن دانق من الأفيون ، سم قاتل لأنه يجمد الدم في العروق لفرط برودته. والذي يدعي علم الطبيعة ، يزعم أنه ما يبرد من المركبات ، إنما يبرد بعنصري الماء والتراب ؛ فهما العنصران الباردان. ومعلوم أن أرطالاً من الماء والتراب لا يبلغ تبريدها في الباطن إلى هذا الحد. فلو أخبر طبيعي بـهذا ولم يجربـه ، لقال: (( هذا محال ، والدليل على استحالته أن فيه نارية وهوائية ، والهوائية والنارية لا تزيدها برودة ؛ فنقدر الكل ماء وتراباً ، فلا يوجب هذا الإفراط في التبريد. فإن انضم إليه حارّان فبأن لا يوجب ذلك أولى. )) ويقدر هذا برهاناً! وأكثر براهين الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات ، مبني على هذا الجنس! فأنـهم تصوروا الأمور على قدر ما وجدوه وعقلوه ، وما لم يألفوه قدروا استحالته ، ولو لم تكن الرُؤْيا الصادقة مألوفة ، وادعى مدعٍ ، أنه عند ركود الحواس ، يعلم الغيب ، لأنكره المتصفون بمثل هذه العقول. ولو قيل لواحد: هل يجوز أن يكون في الدنيا شيء ، هو بمقدار حبة ، يوضع في بلدة فيأكل تلك البلدة بجملتها ثم يأكل نفسه فلا يُبقي [ شيئاً ] من البلدة وما فيها ، ولا يبقى هو نفسه؟ )) لقال: (( هذا لمحال وهو من جملة الخرافات! )) وهذه حالة النار ، ينكرها من لم يرَ النار إذا سمعها. وأكثر [ إنكار ] عجائب الآخرة هو من هذا القبيل. فنقول للطبيعي: (( قد اضطررت إلى أن تقول : في الأفيون خاصية في التبريد ، ليست على قياس المعقول بالطبيعة. فلمَ لا يجوز أن يكون في الأوضاع الشرعية من الخواص ، في مداواة القلوب وتصفيتها ، ما لا يدرك بالحكمة العقلية ، بل لا يبصر ذلك إلا بعين النبوة؟ )) بل قد اعترفوا بخواص هي أعجب من هذا فيما أوردوه في كتبهم ، وهي من الخواص العجيبة المجربة في معالجة الحامل التي عسر عليها الطلق ، بـهذا الشكل: 4 9 2 د ط ب 3 5 7 ج هـ ز 8 1 6 ح ا و
يكتب على خرقتين لم يصبهما ماء ، وتنظر إليهما الحامل بعينها ، وتضعهما تحت قدميها ، فيسرع الولد في الحال إلى الخروج. وقد أقروا بإمكان ذلك وأوردوه في (( عجائب الخواص )) ؛ وهو شكل فيه تسعة بيوت ، يرقم فيها رقوم مخصوصة ، يكون مجموع ما في جدول واحد خمسة عشر ، قرأته في طول الشكل أو في عرضه أو على التأريب .
فيا ليت شعري! من يصدق بذلك ، ثم لا يتسع عقله للتصديق ، بأن تقدير صلاة الصبح بركعتين ، والظهر بأربع ، والمغرب بثلاث ، هو لخواص غير معلومة بنظر الحكمة؟ وسببها اختلاف هذه الأوقات. وإنما تدرك هذه الخواص بنور النبوة. والعجب أنـَّا لو غيرنا العبارة إلى عبارة المنجمين ، لعقلوا اختلاف هذه الأوقات ، فنقول: (( أليس يختلف الحكم في الطالع ، بأن تكون الشمس في وسط السماء ، أو في الطالع ، أو في الغارب ، حتى يبنوا على هذا في تسييراتـهم اختلاف العلاج ، وتفاوت الأعمار والآجال ، ولا فرق بين الزوال وبين كون الشمس في وسط السماء ، ولا بين المغرب وبين كون الشمس في الغارب ، فهل لتصديق ذلك سبب؟ )) إلا أن ذلك يسمعه بعبارة منجم ، لعله جرب كذبه مائة مرة. ولا يزال يعاود تصديقه ، حتى لو قال المنجم [ له ]: (( إذا كانت الشمس في وسط السماء ، ونظر إليها الكوكب الفلاني ، والطالع هو البرج الفلاني ، فلبست ثوباً جديداً في ذلك الوقت قتلت في ذلك الثوب! )) فأنه لا يلبس الثوب في ذلك الوقت ، وربما يقاسي فيه البرد الشديد ، وربما سمعه من منجم وقد عرف كذبـه مرات!. فليت شعري! من يتسع عقله لقبول هذه البدائع ويضطر إلى الاعتراف بأنـها خواص -معرفتها معجزة لبعض الأنبياء- فيكف ينكر مثل ذلك ، فيما يسمعه من قول نبي صادق مؤيد بالمعجزات ، لم يعرف قط بالكذب! ( ولم لا يتسع لإمكأنه! ). فإن أنكر فلسفي إمكان هذه الخواص في أعداد الركعات ، ورمي الجمار ، وعدد أركان الحج ، وسائر تعبدات الشرع ، لم يجد بينها وبين خواص الأدوية والنجوم فرقاً أصلاً. فإن قال: (( قد جربت شيئاً من النجوم وشيئاً من الطب ، فوجدت بعضه صادقاً ، فانقدح في نفسي تصديقه وسقط من قلبي استبعاده ونفرته ؛ وهذا لم أجربه ، فبم أعلم وجوده وتحقيقه؟ )) وإن أقررت بإمكأنه ، فأقول: (( إنك لا تقتصر على تصديق ما جربته بل سمعت أخبار المجربين وقلدتـهم ، فاسمع أقوال الأنبياء فقد جربوا وشاهدوا الحق في جميع ما ورد بـه الشرع ، واسلك سبيلهم تدرك بالمشاهدة بعض ذلك.)) على أني أقول: (( وإن لم تجربه ، فيقضي عقلك بوجوب التصديق والإتباع قطعاً. فإنا لو فرضنا رجلاً بلغ وعقل ولم يجرب ( المرض ) ، فمرض ، وله والد مشفق حاذق بالطب ، يسمع دعواه في معرفة الطب منذ عقل ، فعجن له والده دواء ، فقال: (( هذا يصلح لمرضك ويشفيك من سقمك. )) فماذا يقتضيه عقله ، إن كان الدواء مراً كريه المذاق ، أن يتناول؟ أوَ يَكذب ويقول: (( أنا [ لا ] أعقل مناسبة هذا الدواء لتحصيل الشفاء ، ولم أجربه! )) فلا شك أنك تستحمقه إن فعل ذلك! وكذلك يستحمقك أهل البصائر في توقفك! فإن قلت: (( فبَم أعرف شفقة النبي ﷺ ومعرفته بـهذا الطب؟ )) فأقول: (( وبم عرفت [ شفقة أبيك ] وليس ذلك أمراً محسوساً؟ بل عرفتها بقرائن أحواله وشواهد أعماله في مصادره وموارده علماً ضرورياً لا تتمارى فيه. )) ومن نظر في أقوال رسول الله ﷺ ، وما ورد من الأخبار في اهتمامه بإرشاد الخلق ، وتلطفه في جرّ الناس بأنواع الرفق واللطف ، إلى تحسين الأخلاق وإصلاح ذات البين ، وبالجملة إلى ما يصلح به دينهم ودنياهم ، حصل له علم ضروري ، بأن شفقته ﷺ على أمته أعظم من شفقة الوالد على ولده. وإذا نظر إلى عجائب ما ظهر عليه من الأفعال ، وإلى عجائب الغيب الذي أخبر عنه القرآن على لسأنه وفي الأخبار ، وإلى ما ذكره في آخر الزمان ، فظهر ذلك كما ذكره ، علم علماً ضرورياً أنه بلغ الطور الذي وراء العقل ، وانفتحت له العين التي ينكشف منها الغيب الذي لا يدركه إلا الخواص ، والأمور التي لا يدركها العقل. فهذا هو منهاج تحصيل العلم الضروري بتصديق النبي ﷺ . فجرب وتأمل القرآن وطالع الأخبار ، تعرف ذلك بالعيان.
وهذا القدر يكفي في تنبيه المتفلسفة ، ذكرناه لشدة الحاجة إليه في هذا الزمان.
وأما السبب الرابع - وهو ضعف الإيمان بسبب سيرة العلماء- فيداوي هذا المرض بثلاثة أمور: أحدها: أن تقول: (( إن العالم الذي تزعم أنه يأكل الحرام ومعرفته بتحريم ذلك الحرام كمعرفتك بتحريم الخمر [ ولحم الخنـزير ] والربا ، بل بتحريم الغيبة والكذب والنميمة ، وأنت تعرف ذلك وتفعله ، لا لعدم إيمانك بأنه معصية ، بل لشهوتك الغالبة عليك ؛ فشهوته كشهوتك ، وقد غلبته كما غلبتك ، فعلمه بمسائل وراء هذا يتميز به عنك ، لا يناسب زيادة زجر عن هذا المحظور المعين. (( وكم من مؤمن بالطب لا يصبر عن الفاكهة وعن الماء البارد ، وإن زجره الطبيب عنه! ولا يدل ذلك على أنه غير ضار ، أو على ان الإيمان بالطب غير صحيح ، فهذا محمل هفوات العلماء. )) الثاني: أن يقال للعامي: (( ينبغي أن تعتقد أن العالم اتخذ علمه ذخراً لنفسه في الآخرة ، ويظن أن علمه ينجيه ، ويكون شفيعاً له حتى يتساهل معه في أعماله ، لفضيلة علمه. وإن جاز أن يكون زيادة حجة عليه ، فهو يجوز أن يكون زيادة درجة له ، وهو ممكن. فهو ، وإن ترك العمل ، يدلي بالعلم. وأما أنت أيها العامي! إذا نظرت إليه وتركت العمل وأنت عن العلم عاطل ، فتهلك بسوء عملك ولا شفيع لك! )) الثالث: وهو الحقيقة ، أن العالم الحقيقي ، لا يقارف معصية إلا على سبيل الهفوة ، ولا يكون مصراً على المعاصي أصلاً. إذ العلم الحقيقي ما يعرّف أن المعصية سمٌ مهلك ، وأن الآخرة خير من الدنيا. ومن عرَف ذلك ، لا يبيع الخير بما هو أدنى [ منه ]. وهذا العلم لا يحصل بأنواع العلوم التي يشتغل بـها أكثر الناس. فلذلك لا يزيدهم ذلك العلم إلا جرأة على معصية الله تعالى. وأما العلم الحقيقي ، فيزيد صاحبه خشية وخوفاً [ ورجاءً ] ، وذلك يحول بينه وبين المعاصي إلا الهفوات التي لا ينفك عنها البشر في الفترات ، وذلك لا يدل على ضعف الإيمان. فالمؤمن مفتنٌ توّابٌ ، وهو بعيدٌ عن الإصرار والإكباب.
* *
هذا ما أردت أن أذكره في ذم الفلسفة والتعليم وآفاتـهما وآفات من أنكر عليهما ، لا بطريقه. نسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن آثره واجتباه ، وأرشده إلى الحق وهداه ، وألهمه ذكره حتى لا ينساه ، وعصمه عن شر نفسه حتى لم يؤثر عليه سواه ، واستخلصه لنفسه حتى لا يعبد إلا إياه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبـه وسلم.
تم كتاب "المنقذ من الضلال والموصل إلى رب العزة والجلال" لحجة الإسلام الغزالي رضي الله عنه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى المصطفين من عباده وإمائه.

صحيح السيرة النبوية ت الشيخ الالباني

صحيح السيرة النبوية ت الشيخ الالباني