نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate واق

الاثنين، 6 مارس 2023

تفسير سورة لقمان الايات من 20 الي28.

تفسير سورة لقمان الايات 

من 20 الي28. 

 أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)

================

لقمان - تفسير ابن كثير

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)

{ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ(21)} 

يقول تعالى منبها خلقه على نعمه عليهم في الدنيا والآخرة، بأنه سخر لهم ما في السموات من نجوم يستضيئون بها في ليلهم ونهارهم، وما يخلق فيها من سحاب وأمطار وثلج وبرد، وجعله إياها لهم سقفا محفوظا، وما خلق لهم في الأرض من قرار وأنهار وأشجار وزروع وثمار. وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة من إرسال الرسل وإنزال الكتب، وإزاحة الشبَه والعلل، ثم مع هذا كله ما آمن الناس كلهم، بل منهم من يجادل في الله، أي: في توحيده وإرسال الرسل. ومجادلته في ذلك بغير علم، ولا مستند من حجة صحيحة، ولا كتاب مأثور صحيح؛ ولهذا قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ } أي: مبين مضيء.

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } أي: لهؤلاء المجادلين في توحيد الله: { اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ } أي: على رسوله من الشرائع المطهرة، { قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي: لم يكن لهم حجة إلا اتباع الآباء الأقدمين، قال الله: { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ } [البقرة: 170] أي: فما ظنكم أيها المحتجون بصنيع آبائهم، أنهم كانوا على ضلالة وأنتم خلف لهم فيما كانوا فيه؛ ولهذا قال: { أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } .

{ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) } .

يقول تعالى مخبرًا عمن أسلم وجهه لله، أي: أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه؛ ولهذا قال: { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي: في عمله، باتباع ما به أمر، وترك ما عنه زجر، { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي: فقد أخذ موثقا من الله متينًا أنه لا يعذبه، { وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ. وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ } أي: لا تحزن يا محمد عليهم في كفرهم بالله وبما جئت به؛ فإن قدر الله نافذ فيهم، وإلى الله مرجعهم فينبئهم بما عملوا، أي: فيجزيهم عليه، { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ، فلا تخفى عليه خافية.

ثم قال: { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا } أي: في الدنيا ، { ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ } أي: نلجئهم { إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } أي: فظيع صعب مشق على النفوس، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ . مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [يونس: 69، 70].

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)

{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) } .

يقول تعالى مخبرًا عن هؤلاء المشركين به: إنهم يعرفون أن الله خالقُ السموات والأرض، وحدَه لا شريك له، ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنها خَلْقٌ له وملك له؛ ولهذا قال: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } [أي: إذْ قامت عليكم الحجة باعترافكم]، (1) { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } .

ثم قال: { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي: هو خلقه وملكه، { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } أي: الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، الحميد في جميع ما خلق، له الحمد في السموات والأرض على ما خلق وشرع، وهو المحمود في الأمور كلها.

{ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) } .

يقول تعالى مخبرًا عن عظمته وكبريائه وجلاله، وأسمائه الحسنى وصفاته العلا وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد، ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها، كما قال سيد البشر وخاتم الرسل: "لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" ، فقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } [أي: ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاما، وجعل البحر مدادًا ومَده سبعة أبحر] (2) معه، فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله لتكسرت الأقلام، ونَفدَ ماء البحر، ولو جاء أمثالها مَدَدا.

وإنما ذكرت "السبعة" على وجه المبالغة، ولم يرد الحصر ولا [أن] (3) ثم سبعة أبحر موجودة تحيط بالعالم، كما يقوله من تلقاه من كلام الإسرائيليين التي لا تصدق ولا تكذب، بل كما قال تعالى في الآية الأخرى: { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } [الكهف: 109]، فليس المراد بقوله: { بِمِثْلِهِ } آخر فقط، بل بمثله ثم بمثله ثم بمثله، ثم هلم جرا؛ لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته.

وقال الحسن البصري: لو جعل شجر الأرض أقلاما، وجعل البحر مدادا، وقال الله: "إن من أمري كذا، ومن أمري كذا" لنفد ما في البحور، وتكسرت الأقلام.

وقال قتادة: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، فقال الله تعالى: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ } أي: لو كان شجر الأرض أقلاما، ومع البحر سبعة أبحر، ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه.

__________

(1) زيادة من ت، ف، أ.

(2) زيادة من ت، ف، أ.

(3) زيادة من ت، ف، أ.

وقال الربيع بن أنس: إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنزل الله ذلك: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ } الآية.

يقول: لو كان البحر مدادا لكلمات الله والأشجار كلها أقلاما، لانكسرت الأقلام، وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء؛ لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره، ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه. إن ربنا كما يقول، وفوق ما نقول.

وقد روي أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود، قال ابن إسحاق: حدثني ابن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس؛ أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: يا محمد، أرأيت قولك: { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلا قَلِيلا } ؟ [الإسراء: 85]، إيانا تريد أم قومك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا". فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها في علم الله قليل، وعندكم من ذلك ما يكفيكم". وأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ } الآية .

وهكذا روي عن عكرمة، وعطاء بن يَسَار. وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية لا مكية، والمشهور أنها مكية، والله (1) أعلم.

وقوله: { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي: عزيز قد عَز كلَّ شيء وقهره وغلبه، فلا مانع لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه، { حَكِيمٌ } في خلقه وأمره، وأقواله وأفعاله، وشرعه وجميع شؤونه.

وقوله: { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي: ما خَلْقُ جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كنسبة [خلق] (2) نفس واحدة، الجميع هين عليه و { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82]، { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر: 50] أي: لا يأمر بالشيء إلا مرة واحدة، فيكون ذلك الشيء لا يحتاج إلى تكرره وتوكده (3) . { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } [النازعات: 13، 14].

وقوله: { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } أي: كما هو سميع لأقوالهم بصير بأفعالهم كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة؛ ولهذا قال: { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] } (4) .

__________

(1) في ت، ف: "فالله".

(2) زيادة من ت، ف، أ.

(3) في ت، ف، أ: "وتوكيده".

(4) زيادة من ت، ف، أ، وفي هـ: "الآية".

===============

لقمان - تفسير القرطبي

الآية: [20] {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ}

الآية: [21] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ذكر نعمه على بني آدم، وأنه سخر لهم {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} من شمس وقمر ونجوم وملائكة تحوطهم وتجر إليهم منافعهم. {وَمَا فِي الأَرْضِ} عام في الجبال والأشجار والثمار وما لا يحصى. {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} أي أكملها وأتمها. وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة: {وَأَصْبَغَ} بالصاد على بدلها من السين؛ لأن حروف الاستعلاء تجتذب السين من سفلها إلى علوها فتردها صادا. والنعم: جمع نعمة كسدرة وسدر "بفتح الدال" وهي قراءة نافع وأبي عمرو وحفص. الباقون: {نِعَمَهُ} على الإفراد؛ والإفراد يدل على الكثرة؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} وهي قراءة ابن عباس من وجوه صحاح. وقيل: إن معناها الإسلام؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية: "الظاهرة الإسلام وما حسن من خلقك، والباطنة ما ستر عليك من سيئ عملك". قال النحاس: وشرح هذا أن سعيد بن جبير قال في قول الله عز وجل: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} قال: يدخلكم الجنة. وتمام نعمة الله عز وجل على العبد أن يدخله الجنة، فكذا لما كان الإسلام يؤول أمره إلى الجنة سمي نعمة. وقيل: الظاهرة الصحة وكمال الخلق، والباطنة المعرفة والعقل. وقال المحاسبي: الظاهرة نعم الدنيا، والباطنة نعم العقبى. وقيل: الظاهرة ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال في الناس وتوفيق الطاعات، والباطنة ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله

 

وحسن اليقين وما يدفع الله تعالى عن العبد من الآفات. وقد سرد الماوردي في هذا أقوالا تسعة، كلها ترجع إلى هذا.

قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} تقدم مهناها في الحج وغيرها نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أخبرني عن ربك، من أي شيء هو؟ فجاءت صاعقة فأخذته؛ قاله مجاهد. وقد مضى هذا في {الرعد}. وقيل: إنها نزلت في النضر بن الحارث، كان يقول: إن الملائكة بنات الله؛ قاله ابن عباس. {يُجَادِلُ} يخاصم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي بغير حجة {وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} أي نير بين؛ إلا الشيطان فيما يلقي إليهم. {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} وإلا تقليد الأسلاف كما في الآية بعد. "أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير" فيتبعونه.

الآية: [22] {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}

قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} أي يخلص عبادته وقصده إلى الله تعالى. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} لأن العبادة من غير إحسان ولا معرفة القلب لا تنفع؛ نظيره: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وفي حديث جبريل قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" . {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} قال ابن عباس: لا إله إلا الله؛ وقد مضى في {البقرة}. وقد قرأ علّي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه والسلمي وعبدالله بن مسلم بن يسار: {وَمَنْ يُسَلَّم}. النحاس: و {يسلَّم} في هذا أعرف؛ كما قال عز وجل: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ } ومعنى: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} قصدت بعبادتي إلى الله عز وجل؛ ويكون {يسلّم} على التكثير؛ إلا أن المستعمل

في سلمت أنه بمعنى دفعت؛ يقال سلمت في الحنطة، وقد يقال أسلمت. الزمخشري: قرأ علّي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: {وَمَنْ يُسَلّم} بالتشديد؛ يقال: أسلم أمرك وسلم أمرك إلى الله تعالى؛ فإن قلت: ماله عدي بإلى، وقد عدي باللام في قول عز وجل: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} ؟ قلت: معناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما لله؛ أي خالصا له. ومعناه مع إلى راجع إلى أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه. والمراد التوكل عليه والتفويض إليه. {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} أي مصيرها.

الآية: [23] {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}

الآية: [24] {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}

قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} أي نجازيهم بما عملوا. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً} أي نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها. {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} أي نلجئهم ونسوقهم. {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} وهو عذاب جهنم. ولفظ {مَن} يصلح للواحد والجمع، فلهذا قال: {كُفْرُهُ} ثم قال: {مَرْجِعُهُم} وما بعده على المعنى.

الآية: [25] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}

الآية: [26] {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}

قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي هم يعترفون بأن الله خالقهن فلم يعبدون غيره. {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي على ما هدانا له من دينه، وليس الحمد لغيره. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لا ينظرون ولا يتدبرون .{لِلَّهِ

مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ملكا وخلقا. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي الغني عن خلقه وعن عبادتهم، وإنما أمرهم لينفعهم. {الْحَمِيدُ} أي المحمود على صنعه.

الآية: [27] {لَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

لما احتج على المشركين بما احتج بين أن معاني كلامه سبحانه لا تنفد، وأنها لا نهاية لها. وقال القفال: لما ذكر أنه سخر لهم ما في السموات وما في الأرض وأنه أسبغ النعم نبه على أن الأشجار لو كانت أقلاما، والبحار مدادا فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب. قال القشيري: فرد معنى تلك الكلمات إلى المقدورات، وحمل الآية على الكلام القديم أولى؛ والمخلوق لا بد له من نهاية، فإذا نفيت النهاية عن مقدوراته فهو نفي النهاية عما يقدر في المستقبل على إيجاده، فأما ما حصره الوجود وعده فلا بد من تناهيه، والقديم لا نهاية له على التحقيق. وقد مضى الكلام في معنى {كَلِمَاتُ اللَّهِ} في آخر {الكهف}. وقال أبو علّي: المراد بالكلمات والله أعلم ما في المقدور دون ما خرج منه إلى الوجود. وهذا نحو مما قاله القفال، وإنما الغرض الإعلام بكثرة معاني كلمات الله وهي في نفسها غير متناهية، وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة؛ لا أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور. ومعنى نزول الآية: يدل على أن المراد بالكلمات الكلام القديم. قال ابن عباس: إن سبب هذه الآية أن اليهود قالت: يا محمد، كيف عنينا بهذا القول {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله وأحكامه، وعندك أنها تبيان كل شيء؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التوراة قليل من كثير" ونزلت هذه الآية، والآية مدنية. قال أبو جعفر النحاس: فقد تبين أن الكلمات ها هنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء؛ لأنه عز وجل علم قبل أن

يخلق الخلق ما هو خالق في السموات والأرض من كل شيء، وعلم ما فيه من مثاقيل الذّر، وعلم الأجناس كلها وما فيها من شعرة وعضو، وما في الشجرة من ورقة، وما فيها من ضروب الخلق، وما يتصرف فيه من ضروب الطعم واللون؛ فلو سمى كل دابة وحدها، وسمى أجزاءها على ما علم من قليلها وكثيرها وما تحولت عليه من الأحوال، وما زاد فيها في كل زمان، وبين كل شجرة وحدها وما تفرعت إليه، وقدر ما ييبس من ذلك في كل زمان، ثم كتب البيان على كل واحد منها ما أحاط الله جل ثناؤه به منها، ثم كان البحر مدادا لذلك البيان الذي بين الله تبارك وتعالى عن تلك الأشياء يمده من بعده سبعة أبحر لكان البيان عن تلك الأشياء أكثر.

قلت: هذا معنى قول القفال، وهو قول حسن إن شاء الله تعالى. وقال قوم: إن قريشا قالت سيتم هذا الكلام لمحمد وينحسر؛ فنزلت وقال السّدي: قالت قريش ما أكثر كلام محمد! فنزلت.

قوله تعالى: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} قراءة الجمهور بالرفع على الابتداء، وخبره في الجملة التي بعدها، والجملة في موضع الحال؛ كأنه قال: والبحر هذه حاله؛ كذا قدرها سيبويه. وقال بعض النحويين: هو عطف على {أنّ} لأنها في موضع رفع بالابتداء. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق: {وَالْبَحْرُ} بالنصب على العطف على {ما} وهي اسم {أنّ} . وقيل: أي ولو أن البحر يمده أي يزيد فيه. وقرأ ابن هرمز والحسن: {يَمُدُّهُ} ؛ من أمّد. قالت فرقة: هما بمعنى واحد. وقالت فرقة: مّد الشيء بعضه بعضا؛ كما تقول: مّد النيل الخليج؛ أي زاد فيه. وأمّد الشيء ما ليس منه. وقد مضى هذا في {البقرة. وآل عمران}. وقرأ جعفر بن محمد: {والبحر مداده} . {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} تقدم. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . وقال أبو عبيدة: البحر ها هنا الماء العذب الذي ينبت الأقلام، وأما الماء الملح فلا ينبت الأقلام.

الآية: [28] {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}

قوله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} قال الضحاك: المعنى ما ابتداء خلقكم جميعا إلا كخلق نفس واحدة، وما بعثكم يوم القيامة إلا كبعث نفس واحدة. قال النحاس: وهكذا قّدره النحويون بمعنى إلا كخلق نفس واحدة؛ مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وقال مجاهد: لأنه يقول للقليل والكثير كن فيكون. ونزلت الآية في أبي بن خلف وأبي الأسدين ومنبِّه ونبيه ابني الحجاج بن السباق، قالوا للنبّي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قد خلقنا أطوارا، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما، ثم تقول إنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة! فأنزل الله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، لأن الله تعالى لا يصعب عليه ما يصعب على العباد، وخلقه للعالم كخلقه لنفس واحدة. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لما يقولون {بَصِيرٌ} بما يفعلون.

================

لقمان - تفسير الطبري

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) }

يقول تعالى ذكره:(أَلَمْ تَرَوْا) أيها الناس(أنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ) من شمس وقمر ونجم وسحاب(وَما فِي الأرْضِ) من دابة وشجر وماء وبحر وفلك، وغير ذلك من المنافع، يجري ذلك كله لمنافعكم ومصالحكم، لغذائكم وأقواتكم وأرزاقكم وملاذّكم، تتمتعون ببعض ذلك كله، وتنتفعون بجميعه،( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ).

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه بعض المكيين وعامة الكوفيين:(وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَةً) على الواحدة، ووجهوا معناها إلى أنه الإسلام، أو إلى أنها شهادة أن لا إله إلا الله. وقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة:(نِعَمَهُ) على الجماع، ووجَّهوا معنى ذلك، إلى أنها النعم التي سخرها الله للعباد مما في السموات والأرض، واستشهدوا لصحة قراءتهم ذلك كذلك بقوله:(شاكِرًا لأنْعُمِهِ) قالوا: فهذا جمع النعم.

والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان في قرّاء الأمصار، متقاربتا المعنى، وذلك أن النعمة قد تكون بمعنى الواحدة، ومعنى الجماع، وقد يدخل في الجماع الواحدة. وقد قال جلّ ثناؤه(وَإن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) فمعلوم أنه لم يعن بذلك نعمة واحدة. وقال في موضع آخر: ( وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ )، فجمعها، فبأيّ القراءتين قرأ القارئ ذلك فمصيب.

ذكر بعض من قرأ ذلك على التوحيد، وفسَّره على ما ذكرنا عن قارئيه أنهم يفسرونه.

حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا حجاج، قال: ثني مستور الهنائي، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قرأها:(وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَتَهُ ظَاهِرَةً وَباطِنةً)وفسَّرها: الإسلام.

حُدثت عن الفراء قال: ثني شريك بن عبد الله، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه قرأ:(نِعْمَةً) واحدة. قال: ولو كانت(نِعْمَهُ)، لكانت نعمة دون نعمة، أو نعمة فوق نعمة "الشكّ من الفراء".

حدثني عبد الله بن محمد الزهري، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا حميد، قال: قرأ مجاهد:(وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَتَهُ ظَاهِرَةً وَباطِنةً) قال: لا إله إلا الله.

حدثني العباس بن أبي طالب، قال: ثنا ابن أبي بكير، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد(وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَتَهُ ظَاهِرَةً وَباطِنةً) قال: كان يقول: هي لا إله إلا الله.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد(وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَتَهُ ظَاهِرَةً وَباطِنةً) قال: لا إله إلا الله.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عُيينة، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، قال:

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)

لا إله إلا الله.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عيسى، عن قَيْس، عن ابن عباس(نِعَمَةً ظاهِرَةً وَباطِنَةً) قال: لا إله إلا الله. وقوله:(ظاهِرَةً) يقول: ظاهرة على الألسن قولا وعلى الأبدان وجوارح الجسد عملا. وقوله:(وَباطِنَةً) يقول: وباطنة في القلوب، اعتقادا ومعرفة.

وقوله:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى ) يقول تعالى ذكره: ومن الناس من يخاصم في توحيد الله، وإخلاص الطاعة والعبادة له(بِغَيرِ عِلْمٍ) عنده بما يخاصم،(وَلا هُدًى): يقول: ولا بيان يبين به صحة ما يقول( وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ) يقول: ولا بتنزيل من الله جاء بما يدعي، يبين حقية دعواه.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ) ليس معه من الله برهان ولا كتاب.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) }

يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يجادلون في توحيد الله جهلا منهم بعظمة الله اتبعوا أيها القوم ما أنزل الله على رسوله، وصدِّقوا به، فإنه يفرق بين المحقّ منا والمبطل، ويفصل بين الضّالّ والمهتدى، فقالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من الأديان، فإنهم كانوا أهل حقّ، قال الله تعالى ذكره(أوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) بتزيينه لهم سوء أعمالهم، واتباعهم إياه على ضلالتهم، وكفرهم بالله، وتركهم اتباع ما أنزل الله من كتابه على نبيه(إلى عَذَابِ السَّعِيرِ) يعني: عذاب النار التي تتسعر وتلتهب.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ (22) }

يقول تعالى ذكره: ومن يُعبِّد وجهه متذللا بالعبودة، مقرّا له بالألوهة(وَهُوَ مُحْسِنٌ) يقول: وهو مطيع لله في أمره ونهيه،( فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) يقول:

وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)

فقد تمسك بالطرف الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه من تمسك به، وهذا مثل، وإنما يعني بذلك: أنه قد تمسك من رضا الله بإسلامه وجهه إليه وهو محسن، ما لا يخاف معه عذاب الله يوم القيامة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي السوداء، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس( وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) قال: لا إله إلا الله.

وقوله:( وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ ) يقول: وإلى الله مرجع عاقبة كلّ أمر خيره وشرّه، وهو المسائل أهله عنه، ومجازيهم عليه.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) }

يقول تعالى ذكره: ومن كفر بالله فلا يحزنك كفره، ولا تذهب نفسك عليهم حسرة، فإنّ مرجعهم ومصيرهم يوم القيامة إلينا، ونحن نخبرهم بأعمالهم الخبيثة التي عملوها في الدنيا، ثم نجازيهم عليها جزاءهم(إنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) يقول: إن الله ذو علم بما تكنه صدورهم من الكفر بالله، وإيثار طاعة الشيطان. وقوله:(نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا) يقول: نمهلهم في هذه الدنيا مهلا قليلا يتمتعون فيها ( ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ) يقول: ثم نوردهم على كره منهم عذابا غليظا، وذلك عذاب النار، نعوذ بالله منها، ومن عمل يقرّب منها.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) }

يقول تعالى ذكره: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله من قومك(مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الحَمْدُ لله) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد، فإذا

وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)

قالوا ذلك، فقل لهم: الحمد لله الذي خلق ذلك، لا لمن لا يخلق شيئا وهم يخلقون، ثم قال تعالى ذكره:(بَلْ أكْثرُهُمْ لا يعْلَمون) يقول: بل أكثر هؤلاء المشركون لا يعلمون من الذي له الحمد، وأين موضع الشكر، وقوله:(لِلهِ ما فِي السَّمَوَاتِ والأرْضِ) يقول تعالى ذكره: لله كلّ ما في السموات والأرض من شيء ملكا كائنا ما كان ذلك الشيء من وثن وصنم وغير ذلك، مما يعبد أو لا يعبد(إنَّ الله هُوَ الغَنيُّ الحَمِيدُ) يقول: إن الله هو الغنيّ عن عباده هؤلاء المشركين به الأوثان والأنداد، وغير ذلك منهم ومن جميع خلقه؛ لأنهم ملكه وله، وبهم الحاجة إليه، الحميد: يعني: المحمود على نعمه التي أنعمها على خلقه.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) }

يقول تعالى ذكره: ولو أن شجر الأرض كلها بريت أقلاما(والبَحْرُ يَمُدُّهُ) يقول: والبحر له مداد، والهاء في قوله:(يَمُدُّهُ) عائدة على البحر. وقوله:(منْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مِا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) وفي هذا الكلام محذوف استغنى بدلالة الظاهر عليه منه، وهو يكتب كلام الله بتلك الأقلام وبذلك المداد، لتكسرت تلك الأقلام، ولنفذ ذلك المداد، ولم تنفد كلمات الله.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سألت الحسن عن هذه الآية(وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ) قال: لو جعل شجر الأرض أقلاما، وجعل البحور مدادا، وقال الله: إن من أمري كذا، ومن أمري كذا، لنفد ماء البحور، وتكسَّرت الأقلام.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو في قوله:(وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ) قال: لو بريت أقلاما والبحر مدادا، فكتب بتلك الأقلام منه(ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) ولو مدّه سبعة أبحر.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله:(وَلَوْ أنَّما في

الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) قال: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، قال: لو كان شجر البرّ أقلاما، ومع البحر سبعة أبحر ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه.

وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب مجادلة كانت من اليهود له.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: ثني رجل من أهل مكة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس: أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: يا محمد، أرأيت قوله:(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْم إلا قَلِيلا) إيانا تريد أم قومك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلا"، فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك: أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كلّ شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّها في عِلْمِ اللهِ قَلِيلٌ وَعِنْدَكُمْ مِنْ ذلكَ ما يكْفِيكُمْ"، فأنزل الله عليه فيما سألوه عنه من ذلك(وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) أي أن التوراة في هذا من علم الله قليل.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عكرمة، قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فأنزل الله ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة، وهي الحكمة ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) قال: فنزلت(وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَمُدذُهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) قال: ما أوتيتم من علم فنجاكم الله به من النار، وأدخلكم الجنة، فهو كثير طيب، وهو في علم الله قليل.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: لما نزلت بمكة(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العلْم إلا قَلِيلا) يعني: اليهود، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أتاه أحبار يهود، فقالوا: يا محمد، ألم يبلغنا أنك تقول:(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَلِيلا) أفتعنينا أم قومك؟ قال: "كُلا قَدْ عَنَيْتُ"، قالوا: فإنك تتلو أنا قد أوتينا التوراة، وفيها تبيان

مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)

كلّ شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هِيَ فِي عِلمِ اللهِ قَلِيلٌ، وقَدْ أتاكُمُ اللهُ ما إنْ عَمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ"، فأنزل الله:(وَلَوْ أنَّما فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقلامٌ والبَحْرُ يَمُدُّهُ منْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ...) إلى قوله:(إنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).

واختلفت القرّاء في قراءة قوله:(والبَحْرُ يَمُدُّهُ مَنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ) فقرأته عامَّة قرّاء المدينة والكوفة:(والبحرُ) رفعا على الابتداء، وقرأته قرّاء البصرة نصبا، عطفا به على "ما" في قوله:(وَلَوْ أنَّمَا فِي الأرْضِ)، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب عندي. وقوله:(إنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يقول: إن الله ذو عزّة في انتقامه ممن أشرك به، وادّعى معه إلها غيره، حكيم في تدبيره خلقه.

القول في تأويل قوله تعالى : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) }

يقول تعالى ذكره: ما خلقكم أيها الناس ولا بعثكم على الله إلا كخلق نفس واحدة وبعثها، وذلك أن الله لا يتعذّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع منه شيء شاءه(إنما أمره إذَا أرَادَ شَيْئا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون) فسواء خلق واحد وبعثه، وخلق الجميع وبعثهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثني أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:(كَنَفْسٍ وِاحِدَةٍ) يقول: كن فيكون للقليل والكثير.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله:( مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) قال: يقول: إنما خلق الله الناس كلهم وبعثهم كخلق نفس واحدة وبعثها، وإنما صلح أن يقال: إلا كنفس واحدة، والمعنى: إلا كخلق نفس واحدة؛ لأن المحذوف فعل يدلّ عليه قوله:(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ) والعرب تفعل ذلك في المصادر، ومنه قول الله:(تَدُورُ أعْيُنُهُمْ كالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ) والمعنى: كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت، فلم يذكر الدوران والعين لما وصفت.

وقوله:(إنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) يقول تعالى ذكره: إن الله سميع لما يقول هؤلاء المشركون ويفترونه على ربهم، من ادّعائهم له الشركاء والأنداد وغير ذلك من كلامهم وكلام غيرهم، بصير بما يعملونه وغيرهم من الأعمال، وهو مجازيهم على ذلك جزاءهم. == 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صحيح السيرة النبوية ت الشيخ الالباني

صحيح السيرة النبوية ت الشيخ الالباني