نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate واق

الثلاثاء، 7 مارس 2023

تفسير سورة الشعراء من184ل206.

تفسير سورة الشعراء من184ل206.

وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)

1.تفسير سورةالشعراء - 

من تفسير ابن كثير        ..

وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)

{ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ (184) } .

يأمرهم تعالى (1) بإيفاء المكيال (2) والميزان، وينهاهم عن التطفيف فيهما، فقال: { أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ } أي: إذا دفعتم إلى الناس فكملوا (3) الكيل لهم، ولا تخسروا الكيل فتعطوه ناقصا، وتأخذوه -إذا كان لكم -تامًا وافيًا، ولكن خذوا كما تعطون، وأعطوا كما تأخذون.

{ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } : والقسطاس هو: الميزان، وقيل: القَبَّانُ. قال بعضهم: هو معرب من الرومية.

قال: مجاهد: القسطاس المستقيم: العدل -بالرومية. وقال قتادة: القسطاس: العدل.

وقوله: { وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } : أي: تَنْقُصوهم أموالهم، { وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ }

__________

(1) في ف، أ: "عليه السلام".

(2) في ف، أ: "الكيل".

(3) في أ: "فكلوا".

قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)

: يعني: قطع الطريق، كما في الآية الأخرى: { وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ] } (1) [الأعراف:86] .

وقوله: { وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ } : يخوفهم بأس الله الذي خلقهم وخلق آباءهم الأوائل، كما قال موسى، عليه السلام: { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ } [الصافات:126]. قال ابن عباس، ومجاهد، والسُّدَّي، وسفيان بن عيينة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ } يقول: خلق الأولين. وقرأ ابن زيد: { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا } [يس:62] .

{ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) } .

يخبر تعالى عن جواب قومه له بمثل ما أجابت به ثمود لرسولها (2) -تشابهت قلوبهم -حيث قالوا: { إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } يعنون: من المسحورين، كما تقدم.

{ وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } أي: تتعمد الكذب فيما تقوله، لا أن الله أرسلك إلينا.

{ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ } : قال الضحاك: جانبا من السماء. وقال قتادة: قطعا من السماء. وقال السدي: عذابًا من السماء. وهذا شبيه بما قالت قريش فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى: { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا } ، إلى أن قالوا: { أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا } [الإسراء:90-92]. وقوله: { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال:32]، وهكذا قال هؤلاء الكفرة الجهلة: { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } .

{ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } يقول: الله أعلم بكم، فإن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به غير ظالم لكم، وكذلك وقع بهم كما سألوا، جزاءً وفاقًا؛ ولهذا قال تعالى: { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وهذا من جنس ما سألوا، من إسقاط الكسف عليهم، فإن الله، سبحانه وتعالى، جعل عقوبتهم (3) أن أصابهم حر شديد جدا مدة سبعة أيام لا يَكُنُّهم منه شيء، ثم

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) في ف، أ: "لرسلها".

(3) في أ: "عقوبته".

أقبلت إليهم سحابة أظلتهم، فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر، فلما اجتمعوا [كلهم] (1) تحتها أرسل الله تعالى عليهم منها شررًا من نار، ولهبا ووهجًا عظيمًا، ورجفت بهم الأرض وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم؛ ولهذا قال: { إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .

وقد ذكر الله تعالى صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن (2) كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق، ففي الأعراف ذكر أنهم أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين؛ وذلك لأنهم قالوا: { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } [الأعراف:88]، فأرجفوا بنبي الله ومن اتبعه، فأخذتهم الرجفة. وفي سورة هود قال: { وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ } [هود:94]؛ وذلك لأنهم استهزؤوا بنبي الله في قولهم: { أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [هود:87]. قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء، فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم، فقال: { وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ } (3) وهاهنا قالوا: { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } على وجه التعنت والعناد، فناسب أن يحق عليهم ما استبعدوا وقوعه.

{ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .

قال قتادة: قال عبد الله بن عمر (4) رضي الله عنه: إن الله سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى ما يظلهم منه شيء، ثم إن الله أنشأ لهم سحابة، فانطلق إليها أحدهم واستظل (5) بها، فأصاب تحتها بردًا وراحة، فأعلم بذلك قومه، فأتوها جميعا، فاستظلوا تحتها، فأجَّجتْ عليهم نارًا.

وهكذا روي عن عِكْرِمَة، وسعيد بن جُبَير، والحسن، وقتادة، وغيرهم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، بعث الله إليهم الظلة، حتى إذا اجتمعوا كلهم، كشف الله عنهم الظلة، وأحمى عليهم الشمس، فاحترقوا كما يحترق الجراد في الَمقْلَى.

وقال محمد بن كعب القُرَظيّ: إن أهل مدين عذبوا بثلاثة أصناف من العذاب: أخذتهم الرجفة في دارهم حتى خرجوا منها، فلما خرجوا منها أصابهم فزع شديد، فَفَرقُوا أن يدخلوا إلى البيوت فتسقط عليهم، فأرسل الله عليهم الظلة، فدخل تحتها رجل فقال: ما رأيت كاليوم ظلا (6) أطيب ولا أبرد من هذا. هلموا أيها الناس. فدخلوا جميعًا تحت الظلة، فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا جميعًا. ثم تلا محمد بن كعب: { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .

وقال ابن جرير: حدثني الحارث، حدثني الحسن، حدثني سعيد بن زيد -أخو حماد بن زيد -حدثني حاتم بن أبي صغيرة (7) حدثني يزيد الباهلي: سألت ابن عباس، عن هذه الآية { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } قال: بعث الله عليهم وَمَدَةً (8) وحرا شديدا، فأخذ

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) في أ: "مواضع".

(3) في ف: "فأخذتهم الصيحة".

(4) في ف، أ: "عمرو".

(5) في ف، أ: "فاستظل".

(6) في ف: "ما رأيت ظلا كاليوم"

(7) في أ: "ضفيرة".

(8) في ف، أ: "رعدة".

وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)

بأنفاسهم [فدخلوا البيوت، فدخل عليهم أجواف البيوت، فأخذ بأنفاسهم] (1) فخرجوا من البيوت هرابًا إلى البرية، فبعث الله سحابة فأظلتهم من الشمس، فوجدوا لها بردًا ولذة، فنادى بعضهم بعضا، حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسلها (2) الله عليهم نارا. قال ابن عباس: فذلك عذاب يوم الظلة، إنه كان عذاب يوم عظيم (3) .

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } : أي: العزيز في انتقامه من الكافرين، الرحيم بعباده المؤمنين.

{ وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) } .

يقول تعالى مخبرًا عن الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه: { وإنه } أي: القرآن الذي تقدم ذكره في أول السورة في قوله: { وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ } [الآية]. (4) { لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي: أنزله الله عليك وأوحاه إليك.

{ نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ } : وهو جبريل، عليه السلام، قاله غير واحد من السلف: ابن عباس، ومحمد بن كعب، وقتادة، وعطية العوفي، والسدي، والضحاك، والزهري، وابن جريج. وهذا ما لا نزاع فيه.

قال الزهري: وهذه كقوله { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } الآية[البقرة:97] .

وقال مجاهد: من كلمه الروح الأمين لا تأكله (5) الأرض.

{ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } [ أي: نزل به ملك كريم أمين، ذو مكانة عند الله، مطاع في الملأ الأعلى، { عَلَى قَلْبِكَ } يا محمد، سالمًا من الدنس والزيادة والنقص؛ { لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } ] (6) أي: لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه، وتبشر به المؤمنين المتبعين له.

وقوله: { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } أي: هذا القرآن الذي أنزلناه إليك [أنزلناه] (7) بلسانك العربي الفصيح الكامل الشامل، ليكون بَيِّنًا واضحًا ظاهرًا، قاطعًا للعذر، مقيمًا للحجة، دليلا إلى المحجة.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي بكر العَتَكيّ، حدثنا عباد بن عباد الُمهَلَّبي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في يوم دَجْن إذ قال لهم: "كيف ترون بواسقها؟". قالوا: ما أحسنها وأشد تراكمها. قال: "فكيف ترون قواعدها؟". قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها. قال: "فكيف ترون جَوْنَها (8) ؟". قالوا: ما أحسنه وأشد سواده. قال: "فكيف ترون رحاها استدارت (9) ؟". قالوا: ما أحسنها وأشد

__________

(1) زيادة من ف، أ، والطبري.

(2) في ف، أ: "أرسل".

(3) تفسير الطبري (19/67).

(4) زيادة من ف، أ.

(5) في ف: "لا يأكله".

(6) زيادة من ف، أ.

(7) زيادة من ف، أ.

(8) في ف، أ: "حرنا".

(9) في ف: "رحلها استدار".

وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)

استدارتها. قال: "فكيف ترون برقها، أومَيض أم خَفْو (1) أم يَشُق شَقّا (2) ؟". قالوا: بل يشق شقًا. قال: "الحياء الحياء إن شاء الله". قال: فقال رجل: يا رسول الله، بأبي وأمي ما أفصحك، ما رأيت الذي هو أعربُ منك. قال: فقال: " حق لي، وإنما أنزل (3) القرآن بلساني، والله يقول: { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } (4) .

وقال سفيان الثوري: لم ينزل وحي إلا بالعربية، ثم تَرْجم كل نبي لقومه، واللسان يوم القيامة بالسريانية، فَمَنْ دخل الجنة تكلم بالعربية. رواه ابن أبي حاتم.

{ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) } .

يقول تعالى: وإنَّ ذِكْر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم، الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه، كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك، حتى قام آخرهم خطيبًا في ملئه بالبشارة بأحمد: { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [الصف : 6] ، والزبر هاهنا هي الكتب وهي جمع زَبُور (5) ، وكذلك الزبور، وهو كتاب داود. وقال تعالى: { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } [القمر:52] أي: مكتوب عليهم في صحف الملائكة.

ثم قال تعالى: { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي: أو ليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك: أن العلماء من بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها؟ والمراد: العدول منهم، الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته، كما أخبر بذلك مَنْ آمن منهم كعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، عَمَّنْ أدركه منهم ومَنْ شاكلهم. وقال الله تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } الآية [الأعراف:157] .

ثم قال تعالى مخبرًا عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن؛ أنه لو أنزله على رجل من الأعاجم، مِمَّنْ لا يدري من العربية كلمة، وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته، لا يؤمنون به؛ ولهذا قال: { وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } ، كما أخبر عنهم في الآية الأخرى: { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ } [الحجر:14، 15] وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [الأنعام:111]، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس:96 ، 97] .

{ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) }

__________

(1) في أ: "خفق".

(2) في أ: "شقاقا".

(3) في ف: "نزل".

(4) ورواه الرامهرمزي في أمثال الحديث ص (155) من طريق عبد الله بن محمد الأموي، عن عباد بن عباد المهلبي به.

(5) في ف، أ: "زبرة".

....الشعراء - تفسير القرطبي

الآية: [184] {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ}

الآية: [185] {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}

الآية: [186] {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ}

الآية: [187] {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}

الآية: [188] {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ}

الآية: [189] {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}

الآية: [190] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}

الآية: [191] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}

قوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} الأيك الشجر المتلف الكثير الواحدة أيكة. ومن قرأ: {أَصْحَابُ لأَيْكَةِ} فهي الغيضة. ومن قرأ: {لَيْكَةِ} فهو اسم القرية. ويقال: هما مثل بكة ومكة؛ قاله الجوهري. وقال النحاس: وقرأ أبو جعفر ونافع: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} وكذا قرأ: في {ص}. وأجمع القراء على الخفض في التي في سورة {الحجر} والتي في سورة {ق} فيجب أن يرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه إذ كان المعنى واحدا. وأما ما حكاه أبو عبيد من أن {لَيْكَةِ} هي اسم القرية التي كانوا فيها وأن {الأَيْكَةِ} اسم البلد فشيء لا يثبت ولا يعرف من قاله فيثبت علمه، ولو عرف من قاله لكان فيه نظر؛ لأن أهل العلم جميعا من أهل التفسير والعلم بكلام العرب على خلافه.

وروى عبد الله بن وهب عن جرير بن حازم عن قتادة قال: أرسل شعيب عليه السلام إلى أمتين: إلى قومه من أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة؛ قال: والأيكة غيضة من شجر متلف. وروى سعيد عن قتادة قال: كان أصحاب الأيكة أهل غيضة وشجر وكانت عامة شجرهم الدوم وهو شجر المقل. وروى ابن جبير عن الضحاك قال: خرج أصحاب الأيكة - يعني حين أصابهم الحر - فانضموا إلى الغيضة والشجر، فأرسل الله عليهم سحابة فاستظلوا تحتها، فلما تكاملوا تحتها أحرقوا. ولو لم يكن هذا إلا ما روي عن ابن عباس قال: و {الْأَيْكَةِ} الشجر. ولا نعلم بين أهل اللغة اختلافا أن الأيكة الشجر الملتف، فأما احتجاج بعض من احتج بقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح أنه في السواد {لَيْكَةِ} فلا حجة له؛ والقول فيه: إن أصله الأيكة ثم خففت الهمزة فألقيت حركتها على اللام فسقطت واستغنت عن ألف الوصل؛ لأن اللام قد تحركت فلا يجوز عل هذا إلا الخفض؛ كما تقول بالأحمر تحقق الهمزة ثم تخفضها بلحمر؛ فإن شئت كتبته في الخط على ما كتبته أولا، وإن شئت كتبته بالحذف؛ ولم يجز إلا الخفض؛ قال سيبويه: وأعلم أن ما لا ينصرف إذا دخلت عليه الألف واللام أو أضيف أنصرف؛ ولا نعلم أحدا خالف سيبويه في هذا. وقال الخليل: {الأَيْكَةِ} غيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر. {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} ولم يقل أخوهم شعيب؛ لأنه لم يكن أخا لأصحاب الأيكة في النسب، فلما ذكر مدين قال: {أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف: 85] ؛ لأنه كان منهم. وقد مضى في {الأعراف} القول في نسبه. قال ابن زيد: أرسل الله شعيبا رسولا إلى قومه أهل مدين، وإلى أهل البادية وهم أصحاب الأيكة؛ وقال قتادة. وقد ذكرناه. {أَلا تَتَّقُونَ} تخافون الله {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} الآية. وإنما كان جواب هؤلاء الرسل واحدا على صيغة واحدة؛ لأنهم متفقون على الأمر بالتقوى، والطاعة والإخلاص في العبادة، والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة. {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} الناقصين للكيل

والوزن. {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} أي أعطوا الحق. وقد مضى في {سُبْحَانَ} وغيرها. {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} تقدم في {سُبْحَانَ} وغيرها.

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} قال مجاهد: الجبلة هي الخليقة. وجبل فلان على كذا أي خلق؛ فالخُلُق جِبِلَّة وجُبُلَّة وجِبْلة وجُبْلة وجَبْلة ذكره النحاس في "معاني القرآن". {وَالْجِبِلَّةَ} عطف على الكاف والميم. قال الهروي: الجِبِلَّة والجُبْلَة والجِبِلّ والجُبُلّ والجَبْلُ لغات؛ وهو الجمع ذو العدد الكثير من الناس؛ ومنه قوله تعالى: {جِبِلاً كَثِيراً} [يس: 62]. قال النحاس في كتاب "إعراب القرآن" له: ويقال جُبُلَّة والجمع فيهما جَبَّال، وتحذف الضمة والكسرة من الباء، وكذلك التشديد من اللام؛ فيقال: جُبْلة وجُبَل، ويقال: جِبْلة وجِبال؛ وتحذف الهاء من هذا كله. وقرأ الحسن باختلاف عنه: {والجُبُلَّة الأولين} بضم الجيم والباء؛ وروي عن شيبة والأعرج. الباقون بالكسر. قال:

والموت أعظم حادث ... فيما يمر على الجِبِلّه

{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} الذين يأكلون الطعام والشراب على ما تقدم. {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} أي ما نظنك إلا من الكاذبين في أنك رسول الله تعالى. {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} أي جانبا من السماء وقطعة منه، فننظر إليه؛ كما قال: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور: 44]. وقيل: أرادوا أنزل علينا العذاب. وهو مبالغة في التكذيب. قال أبو عبيدة: الكسف جمع كسفة مثل سدر وسدرة. وقرأ السلمي وحفص: {كِسْفاً} جمع كسْفة أيضا وهي القطعة والجانب تقديره كِسْرة وكسَر. قال الجوهري: الكسفة القطعة من الشيء، يقال أعطني كسفة من ثوبك والجمع كسَف وكسْف. ويقال: الكسف والكسفة واحد. وقال الأخفش: من قرأ: {كِسْفاً} جعله واحدا ومن قرأ: {كِسْفاً} جعله جمعا. وقد مضى هذا في سورة {سُبْحَانَ} وقال الهروي: ومن قرأ: {كسفا} على التوحيد فجمعه أكساف وكسوف، كأنه قال أو تسقطه علينا طبقا واحدا،

وهو من كسفت الشيء كسفا إذا غطيته. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} تهديد؛ أي إنما علي التبليغ وليس العذاب الذي سألتم وهو يجازيكم. {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} قال ابن عباس: أصابهم حر شديد، فأرسل الله سبحانه سحابة فهربوا إليها ليستظلوا بها، فلما صاروا تحتها صيح بهم فهلكوا. وقيل: أقامها الله فوق رؤوسهم، وألهبها حرا حتى ماتوا من الرمد. وكان من أعظم يوم في الدنيا عذابا. وقيل: بعث الله عليهم سموما فخرجوا إلى الأيكة يستظلون بها فأضرمها الله عليهم نارا فاحترقوا. وعن ابن عباس أيضا وغيره: إن الله تعالى فتح عليهم بابا من أبواب جهنم، وأرسل عليهم هدة وحرا شديدا فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا بيوتهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء فأنضجهم الحر، فخرجوا هربا إلى البرية، فبعث الله عز وجل سحابة فأظلتهم فوجدوا لها بردا وروحا وريحا طيبة، فنادى بعضهم بعضا، فلما اجتمعوا تحت السحابة ألهبها الله تعالى عليهم نارا، ورجفت بهم الأرض، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى، فصاروا رمادا؛ فذلك قوله: {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود: 68] وقوله: {فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم } . وقيل: إن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام، وسلط عليهم الحر حتى أخذ بأنفاسهم، ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب، ليتبردوا فيها فيجدوها أشد حرا من الظاهر. فهربوا إلى البرية، فأظلتهم سحابة وهي الظلة، فوجدوا لها بردا ونسيما، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. وقال يزيد الجريري: سلط الله عليهم الحر سبعة أيام ولياليهن ثم رفع لهم جبل من بعيد" فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون وشجر وماء بارد، فاجتمعوا كلهم تحته، فوقع عليهم الجبل وهو الظلة. وقال قتادة: بعث الله شعيبا إلى أمتين: أصحاب مدين وأصحاب الأيكة فأهلك الله أصحاب الأيكة بالظلة، وأما أصحاب مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا أجمعين .{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} قيل: آمن بشعيب من الفئتين تسعمائة نفر.

الآية: [192] {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

الآية: [193] {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}

الآية: [194] {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}

الآية: [195] {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}

الآية: [196] {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ}

قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} عاد إلى ما تقدم بيانه في أول السورة من إعراض المشركين عن القرآن. {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} مخففا قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو. الباقون: {نَزَلَ} مشددا {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} نصبا وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد لقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ} وهو مصدر نزل، والحجة لمن قرأ بالتخفيف أن يقول ليس هذا بمقدر، لأن المعنى وإن القرآن لتنزيل رب العالمين نزل به جبريل إليك؛ كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: 97] أي يتلوه عليك فيعيه قلبك. وقيل: ليثبت قلبك. "أي يتلوه عليك فيعيه قلبك. وقيل: ليثبت قلبك. {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} أي لئلا يقولوا لسنا نفهم ما تقول. {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} أي وإن ذكر نزوله لفي كتب الأولين يعني الأنبياء. وقيل: أي إن ذكر محمد عليه السلام في كتب الأولين؛ كما قال تعالى: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] والزبر الكتب الواحد زبور كرسول ورسل؛ وقد تقدم.

الآية: [197] {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ}

الآية: [198] {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ}

الآية: [199] {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}

الآية: [200] {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}

الآية: [201] {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}

الآية: [202] {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}

الآية: [203] {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ}

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} قال مجاهد: يعني عبدالله بن سلام وسلمان وغيرهما ممن أسلم. وقال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة

يسألونهم عن محمد عليه السلام، فقالوا: إن هذا لزمانه، وإنا لنجد في التوراة نعته وصفته. فيرجع لفظ العلماء إلى كل من كان له علم بكتبهم أسلم أو لم يسلم على هذ القول. وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجة على المشركين؛ لأنهم كانوا يرجعون في أشياء من أمور الدين إلى أهل الكتاب؛ لأنهم مظنون بهم علم. وقرأ ابن عامر: {أَوَلَمْ تكُنْ لَهُمْ آيَةً} . الباقون {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً} بالنصب على الخبر واسم يكن {أَنْ يَعْلَمَهُ} والتقدير أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل الذين أسلموا آية واضحة. وعلى القراءة الأولى اسم كان {آيَةً} والخبر {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} . وقرأ عاصم الجحدري: {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} . {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ} أي على رجل ليس بعربي اللسان {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ} بغير لغة العرب لما أمنوا ولقالوا لا نفقه. نظيره: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} [فصلت: 44] الآية. وقيل: معناه ولو نزلناه على رجل ليس من العرب لما آمنوا به أنفة وكبرا. يقال: رجل أعجم وأعجمي إذا كان غير فصيح وإن كان عربيا، ورجل عجمي وإن كان فصيحا ينسب إلى أصله؛ إلا أن الفراء أجاز أن يقال رجل عجمي بمعنى أعجمي. وقرأ الحسن {عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِيَّينَ} مشددة بياءين جعله نسبة. ومن قرأ: {الأَعْجَمِينَ} فقيل: إنه جمع أعجم. وفيه بعد؛ لأن ما كان من الصفات الذي مؤنثه فعلاء لا يجمع بالواو والنون، ولا بالألف والتاء؛ لا يقال أحمرون ولا حمراوات. وقيل: إن أصله الأعجمين كقراءة الجحدوي ثم حذفت ياء النسب، وجعل جمعه بالياء والنون دليلا عليها. قاله أبو الفتح عثمان بن جني. وهو مذهب سيبويه.

قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} يعني القرآن أي الكفر به {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} وقيل: سلكنا التكذيب في قلوبهم؛ فذلك الذي منعهم من الإيمان، قاله يحيى بن سلام وقال عكرمة: القسوة. والمعنى متقارب وقد مضى في {الحجر} وأجاز الفراء الجزم في {لا يُؤْمِنُونَ} ؛ لأن فيه معنى الشرط والمجازاة. وزعم أن من شأن العرب إذا وضعت لا موضع كي لا في مثل هذا ربما جزمت ما بعدها وربما رفعت؛ فتقول: ربطت

الفرس لا ينفلت بالرفع والجزم، لأن معناه إن لم أربطه ينفلت، والرفع بمعنى كيلا ينفلت. وأنشد لبعض بني عقيل:

وحتى رأينا أحسن الفعل بيننا ... مساكنه لا يقرف الشر قارف

بالرفع لما حذف كي. ومن الجزم قول الآخر:

لطالما حلأتماها لا ترد ... فخلياها والسجال تبترد

قال النحاس: وهذا كله في {يُؤْمِنُونَ} خطأ عند البصريين، ولا يجوز الجزم بلا جازم، ولا يكون شيء يعمل عملا فإذا حذف عمل عملا أقوي، من عمله وهو موجود، فهذا احتجاج بيِّن {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي العذاب. وقرأ الحسن: {فَتَأْتِيَهُمْ} بالتاء، والمعني: فتأتيهم الساعة بغتة فأضمرت لدلالة العذاب الواقع فيها، ولكثرة ما في القرآن من ذكرها. وقال رجل للحسن وقد قرأ: {فَتَأْتِيَهُمْ} : يا أبا سعيد إنما يأتيهم العذاب بغتة. فانتهره وقال: إنما هي الساعة تأتيهم بغتة أي فجأة. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بإتيانها. {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} أي مؤخرون وممهلون. يطلبون الرجعة هنالك فلا يجابون إليها. قال القشيري: وقوله: {فَيَأْتِيَهُمْ} ليس عطفا على قوله: {حَتَّى يَرَوُا} بل هو جواب قوله: {لا يُؤْمِنُونَ} فلما كان جوابا للنفي انتصب، وكذلك قوله: {فَيَقُولُوا}.

الآية: [204] {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}

الآية: [205] {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ}

الآية: [206] {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ}

...........الشعراء - تفسير الطبري

وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) }

يقول تعالى ذكره:( واتقوا ) أيها القوم عقاب ربكم( الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ خَلَقَ الْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ ) يعني بالجبلة: الخلق الأوّلين. وفي الجبلة للعرب لغتان: كسر الجيم والباء وتشديد اللام، وضم الجيم والباء وتشديد اللام; فإذا نزعت الهاء من آخرها كان الضم في الجيم والباء أكثر كما قال جلّ ثناؤه: "وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جُبُلا كَثِيرًا" وربما سكنوا الباء من الجبْل، كما قال

أبو ذؤيب:

مَنايا يُقَرّبْنَ الحُتُوفَ لأهْلِها... جِهارًا وَيَسْتَمْتِعْنَ بالأنس الجِبْلِ (1)

وبنحو ما قلنا في معنى الجِبِلَّة قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: قوله:( وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ ) يقول: خلق الأوّلين.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ ) قال: الخليقة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ ) قال: الخلق الأوّلين، الجبلة: الخلق.

وقوله:( قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) يقول: قالوا: إنما أنت يا شعيب معلل تعلل بالطعام والشراب، كما نعلل بهما، ولست ملَكا.( وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا ) تأكل وتشرب( وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ). يقول: وما نحسبك فيما تخبرنا وتدعونا إليه، إلا ممن يكذب فيما يقول، فإن كنت صادقا فيما تقول بأنك رسول الله كما تزعم( فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ ) يعني قطعا من السماء، وهي جمع كِسفة، جمع كذلك كما تجمع تمرة: تمرا (2) .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

__________

(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي (اللسان: جبل) والمنايا: جمع منية، وهي الموت. والحتوف جمع حتف، وهو الهلاك. والأنس الناس. والجبل: الأمة من الخلق. وفيه لغات، فيكون مثلث الجيم، ساكن الباء. ويكون بضم الجيم والباء وتشديد اللام. قال في اللسان: وحى جبل كثير. قال أبو ذؤيب: "منايا.." البيت. أي كثير. يقول: الناس كلهم متعة للموت، يستمتع بهم. قال ابن برى: ويروى: الجبل، بضم الجيم. قال: وكذا رواه أبو عبيدة. وقول الله عز وجل: (ولقد أضل منكم جبلا كثيرًا): يقرأ: جبلا (بضم فسكون) عن أبي عمرو وجبلا (بضمتين) عن الكسائي. وجبلا (بكسر فسكون) عن الأعرج وعيسى بن عمر. وجبلا (بكسرتين فلام مشددة) عن أهل المدينة وجبلا (بضمتين مع التشديد) عن الحسن وابن أبي إسحاق قال: ويجوز أيضًا جبل (بكسر ففتح) جمع جبلة (بكسرة فسكون) وهو في جميع هذه الوجوه: خلقًا كثيرًا ا ه.

(2) كذا في الأصل وقياس الجمع الأخير على ما قبله ليس بواضح

قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)

* ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( كسفا ) يقول: قِطَعا.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله:( كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ ) : جانبا من السماء.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ ) قال: ناحية من السماء، عذاب ذلك الكسف.

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) }

يقول تعالى ذكره: قال شعيب لقومه:( رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ) يقول: بأعمالهم هو بها محيط، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم بها جزاءكم.( فكذبوه ) يقول: فكذّبه قومه.( فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ) يعني بالظلة: سحابة ظللتهم، فلما تتاموا تحتها التهبت عليهم نارا، وأحرقتهم، وبذلك جاءت الآثار.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن زيد بن معاوية، في قوله:( فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ) قال: أصابهم حرّ أقلقهم في بيوتهم، فنشأت لهم سحابة كهيئة الظلة، فابتدروها، فلما تتاموا تحتها أخذتهم الرجفة.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، في قوله:( عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ) قال: كانوا يحفرون الأسراب ليتبردوا فيها، فإذا دخلوها وجدوها أشد حرا من الظاهر، وكانت الظلة سحابة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني جرير بن حازم أنه سمع قتادة يقول: بعث شُعيب إلى أمتين: إلى قومه أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة. وكانت الأيكة من شجر ملتف; فلما أراد الله أن يعذّبهم، بعث الله عليهم حرّا شديدا، ورفع لهم العذاب كأنه سحابة; فلما دنت منهم خرجوا إليها رجاء بردها، فلما كانوا تحتها مطرت عليهم نارا. قال: فذلك قوله:( فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ).

حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثني سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد، قال: ثنا حاتم بن أبي صغيرة، قال: ثني يزيد الباهلي، قال: سألت عبد الله بن عباس، عن هذه الآية:( فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) فقال عبد الله بن عباس: بعث الله عليهم ومدة وحرّا شديدا، فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا البيوت، فدخل عليهم أجواف البيوت، فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرابا (1) إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابة، فأظلتهم من الشمس، فوجدوا لها بردا ولذة، فنادى بعضهم بعضا، حتى إذا اجتمعوا تحتها، أرسلها الله عليهم نارا. قال عبد الله بن عباس: فذلك عذاب يوم الظلة،(إنه كان عذاب يوم عظيم).

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: "يَوْمُ الظُّلَّةِ"قال: إظلال العذاب إياهم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد:( عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ) قال: أظلّ العذابُ قوم شُعيب.

قال ابن جُرَيج: لما أنزل الله عليهم أوّل العذاب، أخذهم منه حر شديد، فرفع الله لهم غمامة، فخرج إليها طائفة منهم ليستظلوا بها، فأصابهم منها روح وبرد وريح طيبة، فصبّ الله عليهم من فوقهم من تلك الغمامة عذابا، فذلك قوله:( عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ).

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر بن راشد، قال: ثني رجل من أصحابنا، عن بعض العلماء قال: كانوا عطلوا حدّا، فوسع الله عليهم في الرزق، ثم عطلوا حدّا، فوسع الله عليهم في الرزق، ثم عطلوا حدّا، فوسع الله عليهم في الرزق، فجعلوا كلما عطلوا حدّا وسع الله عليهم في الرزق، حتى إذا أراد إهلاكهم سلط الله عليهم حرّا لا يستطيعون أن يتقارّوا، ولا ينفعهم ظل ولا ماء، حتى ذهب ذاهب منهم، فاستظلّ تحت ظلة، فوجد روحا، فنادى أصحابه: هلموا إلى الروح، فذهبوا إليه سراعا، حتى إذا اجتمعوا ألهبها الله عليهم نارا، فذلك عذاب يوم الظلة.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن ابن عباس، قال: من حدثك من العلماء ما عذاب يوم الظلة؟ فكذِّبْه.

__________

(1) هرابًا: لعله جمع هارب، ولم أجده في اللسان.

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ) قوم شعيب، حبس الله عنهم الظل والريح، فأصابهم حرّ شديد، ثم بعث الله لهم سحابة فيها العذاب، فلما رأوا السحابة انطلقوا يؤمونها، زعموا يستظلون، فاضطرمت عليهم نارا فأهلكتهم.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) قال: بعث الله إليهم ظلة من سحاب، وبعث إلى الشمس فأحرقت ما على وجه الأرض، فخرجوا كلهم إلى تلك الظلة، حتى إذا اجتمعوا كلهم، كشف الله عنهم الظلة، وأحمى عليهم الشمس، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى. وقوله:( إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) يقول تعالى ذكره: إن عذاب يوم الظلة كان عذاب يوم لقوم شُعيب عظيم.

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) }

يقول تعالى ذكره: إن في تعذيبنا قوم شعيب عذاب يوم الظلة، بتكذيبهم نبيهم شعيبا، لآية لقومك يا محمد، وعبرة لمن اعتبر، إن اعتبروا أن سنتنا فيهم بتكذيبهم إياك، سنتنا في أصحاب الأيكة.( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ )في سابق علمنا فيهم( وَإِنَّ رَبَّكَ ) يا محمد( لَهُوَ الْعَزِيزُ ) فى نقمته ممن انتقم منه من أعدائه( الرَّحِيمُ ) بمن تاب من خلقه، وأناب إلى طاعته.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) }

يقول تعالى ذكره: وإنّ هذا القرآن( لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) والهاء في قوله( وإنه ) كناية الذكر الذي فى قوله:( وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ ) .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في

قوله:( لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: هذا القرآن.

واختلف القرّاء في قراءة قوله( نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ ) فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة( نزل ) به مخففة( الرُّوحُ الأمِينُ ) رفعا بمعنى: أن الروح الأمين هو الذي نزل بالقرآن على محمد، وهو جبريل. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة.( نزل ) مشددة الزاي( الرُّوحُ الأمِينُ ) نصبا، بمعنى: أن رب العالمين نزل بالقرآن الروح الأمين، وهو جبريل عليه السلام.

والصواب من القول فى ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان فى قرّاء الأمصار، متقاربتا المعنى، فأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وذلك أن الروح الأمين إذا نزل على محمد بالقرآن، لم ينزل به إلا بأمر الله إياه بالنزول، ولن يجهل أن ذلك كذلك ذو إيمان بالله، وأن الله إذا أنزله به نزل.

وبنحو الذي قلنا في أن المعني بالروح الأمين في هذا الموضع جبريل قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبى، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس. في قوله:( نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ ) قال: جبريل.

حدثنا الحسين، قال أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قول الله:( نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ ) قال: جبريل.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج قال:( الرُّوحُ الأمِينُ ) جبريل.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( الرُّوحُ الأمِينُ ) قال: جبريل.

وقوله( عَلَى قَلْبِكَ ) يقول: نزل به الروح الأمين فتلاه عليك يا محمد، حتى وعيته بقلبك. وقوله:( لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) يقول: لتكون من رسل الله الذين كانوا ينذرون من أرسلوا إليه من قومهم، فتنذر بهذا التنزيل قومك المكذّبين بآيات الله. وقوله:( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) يقول: لتنذر قومك بلسان عربي مبين، يبين لمن سمعه أنه عربي، وبلسان العرب نزل، والباء من قوله( بلسان ) من صلة قوله:( نزلَ )، وإنما ذكر

وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)

تعالى ذكره أنه نزل هذا القرآن بلسان عربي مبين في هذا الموضع، إعلاما منه مشركي قريش أنه أنزله كذلك، لئلا يقولوا إنه نزل بغير لساننا، فنحن إنما نعرض عنه ولا نسمعه، لأنا لا نفهمه، وإنما هذا تقريع لهم، وذلك أنه تعالى ذكره قال:( وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ) . ثم قال: لم يعرضوا عنه لأنهم لا يفهمون معانيه، بل يفهمونها، لأنه تنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين بلسانهم العربيّ، ولكنهم أعرضوا عنه تكذيبا به واستكبارا( فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) . كما أتى هذه الأمم التي قصصنا نبأها في هذه السورة حين كذّبت رسلها أنباء ما كانوا به يكذّبون.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ (201) }

يقول تعالى ذكره: وإن هذا القرآن لفي زبر الأوّلين: يعني في كتب الأوّلين، وخرج مخرج العموم ومعناه الخصوص، وإنما هو: وإن هذا القرآن لفي بعض زبر الأوّلين; يعني: أن ذكره وخبره في بعض ما نزل من الكتب على بعض رسله. وقوله:( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) يقول تعالى ذكره: أولم يكن لهؤلاء المعرضين عما يأتيك يا محمد من ذكر ربك، دلالةٌ على أنك رسول رب العالمين، أن يعلم حقيقة ذلك وصحته علماء بني إسرائيل. وقيل: عني بعلماء بني إسرائيل في هذا الموضع: عبد الله بن سلام ومن أشبهه ممن كان قد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل في عصره.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) قال: كان عبد الله بن سلام من علماء بنى إسرائيل، وكان من خيارهم، فآمن بكتاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لهم الله: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني

إسرائيل وخيارهم.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:( عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) قال: عبد الله بن سلام وغيره من علمائهم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج:( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً ) قال محمد:( أَنْ يَعْلَمَهُ ) قال: يعرفه.( عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ). قال ابن جُرَيج، قال مجاهد: علماء بني إسرائيل: عبد الله بن سلام، وغيره من علمائهم.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) قال: أولم يكن للنبي آية، علامة أن علماء بني إسرائيل كانوا يعلمون أنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم؟. وقوله:( وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ ) يقول تعالى ذكره: ولو نزلنا هذا القرآن على بعض البهائم التي لا تنطق، وإنما قيل على بعض الأعجمين، ولم يقل على بعض الأعجميين، لأن العرب تقول إذا نعتت الرجل بالعجمة وأنه لا يفصح بالعربية: هذا رجل أعجم، وللمرأة: هذه امرأة عَجْماء، وللجماعة: هؤلاء قوم عُجْم وأعجمون، وإذا أريد هذا المعنى وصف به العربيّ والأعجمي، لأنه إنما يعني أنه غير فصيح اللسان، وقد يكون كذلك، وهو من العرب ومن هذا المعنى قول الشاعر:

مِنْ وَائِلٍ لا حَيَّ يَعْدِلُهُمْ... مِنْ سُوقَةٍ عَرَبٌ ولا عُجْمُ (1)

فأما إذا أريد به نسبة الرجل إلى أصله من العجم، لا وصفه بأنه غير فصيح اللسان،

__________

(1) السوقة: الرعية التي تسوسها الملوك. يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث والمذكر. والعجم بضم العين: جمع أعجم. قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (مصورة الجامعة الورقة 175): يقال: رجل أعجم: إذا كان في لسانه عجمة، ورجل عجمي: أي من العجم. والدواب: عجم، لأنها لا تتكلم. وفي (اللسان: عجم) قال أبو إسحاق: الأعجم: الذي لا يفصح ولا يبين كلامه، وإن كان عربي النسب، كزياد الأعجم. والأنثى: عجماء، وكذلك الأعجمي. فأما العجمي فالذي من جنس العجم: أفصح أو لم يفصح، والجمع: عجم (بالتحريك) كعربي وعرب. ورجل أعجمي وأعجم: إذا كانت في لسانه عجمة، وإن أفصح بالعجمية وكلام أعجم وأعجمي: بين العجمة. وفي لتنزيل: (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي). وجمعه بالواو والنون، تقول: أحمري وأحمرون، وأعجمي وأعجمون، على حد أشعثي وأشعثين وأشعري وأشعرين وعليه قوله عز وجل: (ولو نزلناه على بعض الأعجمين)

فإنه يقال: هذا رجل عجميّ، وهذان رجلان عجميان، وهؤلاء قوم عَجَم، كما يقال: عربيّ، وعربيان، وقوم عرب. وإذا قيل: هذا رجل أعجميّ، فإنما نسب إلى نفسه كما يقال للأحمر: هذا أحمري ضخم، وكما قال العجاج:

والدَّهْرُ بالإنسانِ دَوَّارِيُّ (1)

ومعناه: دوّار، فنسبه إلى فعل نفسه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن محمد بن أبي موسى، قال: كنت واقفا إلى جنب عبد الله بن مطيع بعرفة، فتلا هذه الآية:( وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) قال: لو نزل على بعيري هذا فتكلم به ما آمنوا به( لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ) حتى يفقهه عربيّ وعجميّ، لو فعلنا ذلك.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت داود بن أبي هند، عن محمد بن أبي موسى، قال: كان عبد الله بن مطيع واقفا بعرفة، فقرأ هذه الآية( وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) قال: فقال: جملي هذا أعجم، فلو أُنزل على هذا ما كانوا به مؤمنين.

__________

(1) هذا بيت من مشطور الرجز للعجاج الراجز المشهور (اللسان: دور. وأراجيز العرب للسيد توفيق البكري 174) وهو من أرجوزة له حزينة، بدأها بقوله: بَكَيْتُ وَالْمُحْتَرِنُ البَكِيُّ ... وَإنَّمَا يَأْتي الصّبا الصَّبيُّ

أطَرَبَا وَأَنْتَ قِنَّسْرِيُّ ... وَالدَّهْرُ بِالإِنْسَانِ دَوَّارِيُّ

أَفْنَى الْقُرُونَ وَهْوَ قَعْسَرِيُّ ... وَبِالدَّهَاءِ يُخْتَلُ المَدْهِيّ

يقول: بكيت ومن حزم كان بكاؤك. والقنسري: المسن القديم. ودواري: دائر، أي أنه يتصرف بالإنسان ويدور به أطوارًا وأحوالا. والقعسري: الشديد، يريد الدهر. ومحل الشاهد في قوله: "دواري" قال في اللسان: أي دائر به، على إضافة الشيء إلى نفسه (أي نسبته إلى نفسه، لأن دواري منسوب إلى دوار، فلفظ المنسوب إليه كلفظ المنسوب). قال ابن سيده: هذا قول اللغويين قال الفارسي هو على لفظ النسب، وليس بنسب، ونظيره بختى وكرسي. وفي (اللسان: عجم) وينسب إلى الأعجم الذي في لسانه عجمة، فيقال: لسان أعجمي، وكتاب أعجمي، ولا يقال رجل أعجمي فتنسب إلى نفسه، إلا أن يكون أعجم وأعجمي بمعنى، مثل دوار ودواري، وجمل قعسر وقعسري؛ هذا إذا ورد وردًا لا يمكن رده. ا ه.

ورُوي عن قَتادة في ذلك ما حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:( وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ ) قال: لو نزله الله أعجميا كانوا أخسر الناس به، لأنهم لا يعرفون بالعجمية.

وهذا الذي ذكرناه عن قتادة قول لا وجه له، لأنه وجَّه الكلام أن معناه: ولو أنزلناه أعجميا، وإنما التنزيل( وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ ) يعني: ولو نزلنا هذا القرآن العربي علي بهيمة من العجم أو بعض ما لا يفصح، ولم يقل: ولو نزلناه أعجميا. فيكون تأويل الكلام ما قاله.

وقوله( فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ) يقول: فقرأ هذا القرآن على كفار قومك يا محمد الذين حتمت عليهم أن لا يؤمنوا ذلك الأعجم ما كانوا به مؤمنين. يقول: لم يكونوا ليؤمنوا به، لما قد جرى لهم في سابق علمي من الشقاء، وهذا تسلية من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن قومه، لئلا يشتد وجدُه بإدبارهم عنه، وإعراضهم عن الاستماع لهذا القرآن، لأنه كان صلى الله عليه وسلم شديدا حرصه على قبولهم منه، والدخول فيما دعاهم إليه، حتى عاتبه ربه على شدّة حرصه على ذلك منهم، فقال له:( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ثم قال مؤيسه من إيمانهم وأنهم هالكون ببعض مثلاته، كما هلك بعض الأمم الذين قص عليهم قصصهم في هذه السورة. ولو نزلناه على بعض الأعجمين يا محمد لا عليك، فإنك رجل منهم، ويقولون لك: ما أنت إلا بشر مثلنا، وهلا نزل به ملك، فقرأ ذلك الأعجم عليهم هذا القرآن، ولم يكن لهم علة يدفعون بها أنه حق، وأنه تنزيل من عندي، ما كانوا به مصدقين، فخفض من حرصك على إيمانهم به، ثم وكد تعالى ذكره الخبر عما قد حتم على هؤلاء المشركين، الذين آيس نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من إيمانهم من الشقاء والبلاء، فقال: كما حتمنا على هؤلاء أنهم لا يؤمنون بهذا القرآن( وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ ) التكذيب والكفر( فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ). ويعني بقوله: سلكنا: أدخلنا، والهاء في قوله( سلكناه ) كناية من ذكر قوله( مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ )، كأنه قال: كذلك أدخلنا في قلوب المجرمين ترك الإيمان بهذا القرآن.

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله:( كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ ) قال: الكفر( فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ).

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ . لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ ). (1)

حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن سفيان، عن حميد، عن الحسن، في هذه الآية:( كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) قال: خلقناه.

قال: ثنا زيد، عن حماد بن سلمة، عن حميد، قال: سألت الحسن في بيت أبي خليفة، عن قوله( كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) قال: الشرك سلكه في قلوبهم. وقوله:( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ ) يقول: فعلنا ذلك؛ بهم لئلا يصدّقوا بهذا القرآن، حتى يروا العذاب الأليم في عاجل الدنيا، كما رأت ذلك الأمم الذين قص الله قصصهم في هذه السورة. ورفع قوله( لا يُؤْمِنُونَ ) لأن العرب من شأنها إذا وضعت في موضع مثل هذا الموضع "لا"ربما جزمت ما بعدها، وربما رفعت فتقول: ربطت الفرس لا تنفلتْ، وأحكمت العقد لا ينحلّ، جزما ورفعا. وإنما تفعل ذلك لأن تأويل ذلك: إن لم أحكم العقد انحلّ، فجزمه على التأويل، ورفعه بأن الجازم غير ظاهر.

ومن الشاهد على الجزم في ذلك قول الشاعر:

لَوْ كُنْتَ إذْ جِئْتَنا حاوَلْتَ رؤْيَتَنا... أوْ جِئْتنا ماشِيا لا يَعْرِف الفَرَس (2)

وقول الآخر:

__________

(1) سقط تفسير ابن زيد لما أراد من الآية، ولعله الكفر أو الشرك، أو نحوه، أو مثله.

(2) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة الورقة 230) قال: وقوله: (كذلك سلكناه) تقول: سلكنا التكذيب في قلوب المجرمين كيلا يؤمنوا به حتى يروا العذاب الأليم. وإذا كان موقع كى في مثل هذا "لا" و "إن" جميعًا، صلح الجزم في "لا" والرفع. والعرب تقول: ربطت الفرس لا ينفلت: جزمًا ورفعًا وأوثقت العبد لا يفر: جزما ورفعًا؛ وإنما جزم، لأن تأويله: إن لم أربطه فر؛ فجزم على التأويل. أنشدني بعض بني عقيل: وَحَتى رَأَيْنَا أَحْسَنَ الْفِعْلِ بَيْنَنَا ... مُسَاكَتَةً لا يَفْرِقُ الشَّرَّ فَارِقُ

ينشد رفعًا وجزمًا. وقال الآخر: "لو كنت إذ جئتنا.." البيت: رفعًا وجزمًا، وقوله: "لطالما حلأتماها.." الشاهد الآتي بعد من ذلك.

فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)

لَطالَمَا حَلأتَمَاها لا تَرِدْ... فَخَلِّياها والسِّجَالَ تَبْتَرِدْ (1)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) }

يقول تعالى ذكره: فيأتي هؤلاء المكذّبين بهذا القرآن، العذاب الأليم بغتة، يعني فجأة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) يقول: لا يعلمون قبل ذلك بمجيئه حتى يفجأهم بغتة.( فيقولوا ) حين يأتيهم بغتة( هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ) : أي هل نحن مؤخَّر عنا العذاب، ومُنْسأ في آجالنا لنئوب، وننيب إلى الله من شركنا وكفرنا بالله، فنراجع الإيمان به، وننيب إلى طاعته؟. وقوله:( أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ) يقول تعالى ذكره: أفبعذابنا هؤلاء المشركون يستعجلون بقولهم: لن نؤمن لك حتى( تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ) .

القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) }

__________

(1) البيت في (اللسان: حلأ). وروايته: قد طالما.. إلخ، قال: حلأ الإبل والماشية عن الماء تحليئًا وتحلئة: طردها أو حبسها عن الورود، ومنعها أن ترده. وكذلك حلأ القوم عن الماء. وقال ابن الأعرابي: قالت قريبة: كان رجل عاشق لمرأة فتزوجها، فجاءها النساء، فقال بعضهن لبعض * قد طالما حلأتماها لا ترد *

البيت. والسجال: جمع سجل وهو الدلو الضخمة المملوءة ماء (اللسان) والبيت شاهد كالذي قبله، على أن "لا ترد" يجوز فيه الرفع والجزم على التأويل الذي ذكره الفراء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صحيح السيرة النبوية ت الشيخ الالباني

صحيح السيرة النبوية ت الشيخ الالباني